نورالدين قربال
إن ارتباط منظومة الإصلاح بالعالمية يفتح لنا آفاقا متعددة انطلاقا من قيم الحرية والحق والإنصاف والرحمة للعالمين. يحاول هذا المنهج الإصلاحي بسط معالم للعيش المشترك بحكم المنطق والواقع وطبيعة الأمور. لكن الإشكال المطروح هو تزاحم المناهج وقابليتها للنزاع واعتماد طريق الصراع بدل التعاون والاحتكام إلى مؤسسات متفق عليها. لكن للأسف طغى في الغالب تبادل التهم مما شوش على العيش المشترك.
لقد هيمن المنطق الإيديولوجي المبني على العصبية والاحتكار لأن المعيار المتحكم هو الغنيمة والمصالح الذاتية. نتج عن هذا وجود معسكرات تجاوزت التنظير الفكري إلى الدعم اللوجستيكي الذي يخرب البلاد والعباد. أما أصوات الحكمة والتعقل فهي أقلية وعاجزة أن تساهم فعليا في تقويم الوضع وإعادة الأمور إلى توازنها واعتدالها.
إن الاعتداءات السائدة اليوم وليدة فلسفات مدمرة ومؤطرة لهذه الفوضى العارمة. لأن العقلانية طمست معالمها وأصبح لكل معسكر عقلانيته. أمام هذا الوضع يصبح الحليم حيران مسائلا نفسه: هل ما يقع وليد اجتهادات تتنوع بتنوع المرجعيات مع الوقوع في الخلط تفسيريا وتأويليا أم أن الأمر لعبة بين أطراف تتحكم في القرار الدولي بناء على توزيع الأدوار حسب الشوكة والقوة؟ هل الأزمة سياسية أم ثقافية؟
إن الانتكاسة العالمية تتزايد وتتفاقم ومما زاد الطينة بلة ما يقع في الحرب الأوكرانية الروسية والاعتداء الصهيوني على فلسطين. كل هذا عقد منهج المرونة والسلاسة على مستوى التنظير والتنزيل. خاصة عندما أصبحت الموارد المنتجة للقوة المادية متحكم فيها دوليا. مما يؤجج شريعة الغاب والقوي يغلب الضعيف. هذا ما يفسر الانتهاكات المطردة للحريات والحقوق الأساسية.
إذا سلمنا بالعبث الذي تعيشه البشرية، فإنه سيتسرب إلى أغلبية ساكنة العالم عدم الثقة في كل ما يعرض بثوب جديد ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب. والأدهى من كل هذا هو انتقال التدافع بين الأقطاب الحقيقيين إلى تدافع من أبناء البنية الواحدة بالوكالة. والكبار يتدخلون من أجل الاستفادة من خيراتهم لكي يؤسسوا سعادتهم. بذلك تتعقد الأزمة، والعلة أننا لسنا مؤهلين للمساهمة في القرار العالمي لأننا نعيش فراغا على مستوى التدافع الإصلاحي. بذلك يبقى “السلم المفبرك” شعارا لمضيعة الوقت حتى تتاح للمشاريع المهيمنة بسط وجودها بكل أريحية، ويظل الاختيار الديمقراطي بعيد المنال أفقيا وعموديا، إقليميا ودوليا.
إن المصطلحات المهيمنة عالميا من صنع أصحاب القرار الدولي. فهي مشحونة بدلالات تخدم أهدافهم. لكن عندما يطرح منظور إصلاحي جنيني رأيه يتهم بالتطرف والغلو والخروج عن المألوف. قد يكون التسويق لهذا التجديد غير ناضج بما فيه الكفاية، وعدم القدرة على الفصل بين الإرث التاريخي والواقع السياسي المعيش. عندما يعجز الإنسان عن المواجهة المعرفية يختبئ وراء ستار الإشعاع التاريخي. ونسوا بأن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولهم ما كسبوا. إذن نلوك أحداثا تاريخية من أجل إعادة معارك أكل الدهر عليها وشرب. مع ترك الفراغ لمن يطلع على العالم بكل ما وفرته التقنيات الحديثة. فمتى يتحرك تعقل العقل للبنية العربية والإسلامية؟ هل هي أزمة تجديد وإحياء ووعي بالمحيط واستيعاب أم أن هناك أسبابا أخرى؟
هناك عوائق فكرية وثقافية تعيق مبدأ الوسطية والاعتدال. إذن هل نوظف العقل في جدلية مع الوحي للمساهمة في هذا البناء الإصلاحي؟ لا غرو أن الأمور عندما تتعقد إقليميا ودوليا يشرع العقل البشري في المراجعات. فتتقاطر الاجتهادات هنا وهناك كوصفات حلولية للتقليص مما وقع. لكن المؤسف أننا في لحظة تاريخية كل يغني على ليلاه بناء على هندسة دولية عنوانها الأكبر: المصلحة أولا ودائما، بذلك نفقد التوازن بين الرأسمال المادي والمعنوي. والنتيجة انهيار الأخلاق، وإصابة القيم بخلخلة على مستوى الدال وتشويش على مستوى المدلول. وقد بدا هذا واضحا في الصراع الدائم بين الاحتلال الصهيوني والمقاومة الفلسطينية. كما افتقرت المؤسسات الدولية التي صنعها الفاعل المتحكم في العالم الشرعية والمشروعية. وطمست معالم العقل السليم في الجسم السليم برؤية حضارية سليمة.
انطلاقا من هذا الواقع العالمي المتعثر إصلاحه نؤكد على مايلي:
1.ضرورة إعادة البعد القيمي للتأطير السياسي.
2.عقلنة البحث العلمي في اتجاه خدمة المصالح العليا للعالم.
3.احترام الاختيار الديمقراطي باعتباره معطى موضوعيا لتداول السلطة مع احترام قرارات المؤسسات.
4.جعل السلطة توزيعا عادلا لقيم الديمقراطية ضمانا للعيش الكريم في ظل احترام منظومة الحريات والحقوق الأساسية.
5.الحذر من تجاوز الدول حدودها المشروعة وعدم خدمة المواطنات والمواطنين لأن هذا يساعد على التمرد عليها بحثا عن العدل في اجتهادات الانتربولوجية السياسية حيث “المجتمع لا دولة”.
6.توفير خيط ناظم بين الشركات العابرة للقارات والدول حتى لا نسقط في ازدواجية السيادات التي تؤثر في الشرعية والمشروعية.
- البحث في المشترك العالمي من أجل البناء الحضاري الكوني بغية التقليص من الأذى العالمي إلى الآدمية في ظل احترام كرامة الإنسان والحريات والحقوق.
8.إعطاء قيمة استراتيجية للتربية والتكوين والآداب والثقافة في التأطير والتعبئة والتنشئة.
9.عقلنة وترشيد الخطابات الإعلامية وجعلها مطواعة للمساهمة في نشر المحبة والإنسانية والتعاون والتضامن.
10.التبادل المعرفي والثقافي بناء على أن الحكمة ضالة الباحث حيث ما وجدها التقطها ما دامت ستنفع البشرية. هذا ما يتطلب الحوار الدائم والتواصل المستمر.
صفوة القول إننا اليوم في حاجة إلى إحداث جدلية بين العقل والوحي في ظل منظومة تجديدية عنوانها الأكبر جلب المصلحة أولى من درء المفسدة والتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه وإتقان حسن تدبير الاختلاف والرحمة للعالمين، تجنبا لسقوط منارات المعرفة والعلم والثقافة والعمران والقيم.
تعليقات
0