أجرى الحوار : فكري ولدعلي
في هذا الحوار الذي أجريناه مع الفنانة العالمية سميرة القادري؛ نكتشف
صوتا غنائيا متميزا؛ صوتا انطلق من المدينة المغربية الصويرة ليجول
الأفاق وينعش الذاكرة الإنسانية؛ في هذا الحوارنعيد صياغة المحطات
الرئيسية في حياة ومسار هذه الفنانة التي أبت إلا أن تطوّع نصوص اللغة
العربية في قوالب موسيقية عالمية؛ الفنانة التي يستهويها البحث والنبش في
الذاكرة المتوسطية والأندلسيات؛ ورغم ذلك لا تحبذ أن تحصر نفسها في قوالب
معينة فهي دائمة البحث والاشتغال على الأغنية كلمة ولحنا؛ لما لا وهي التي قادتهاتجربتها إلى العمل مع عمالقة الغناء والموسيقى.
بدايةمن تكون الفنانة سميرة القادري؟
سميرة القادري خريجة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط
الثقافي؛ الدفعة الثانية؛ درست تقنيات الجسد والمسرح؛ درست كذلك تقنيات
الغناء الأوبرالي؛ فموهبة الغناء كانت حاضرة لدي من الصغر؛ منذ أن كان
لدي 9 سنوات تقريبا؛ كنت أقف على خشبة المسرح؛ ترعرعت في وسط فني؛ فوالديكان يعشق المسرح والغناء؛ والدتي كذلك كانت تنتمي للزاوية الشرقاوية؛
وكما هو معلوم في الثقافة الصوفية وتقاليدها كانت هناك “النساء الفقيرات”
فكان من الطبيعي أن أحفظ منها وأستقي من هذه التجربة بداياتي الأولى؛
وعند اشتغالي على الغناء الصوفي أوظف هذه الأمور؛ طبعا ليس بالضرورة
بطريقتها التقليدية؛ ولكن عن طريق الاستلهام والاستنباط.
فالموهبة كانت حاضرة كما قلت من الصغر؛ وأساتذتي شجعوني على صقلها؛ صراحةمع دخولي لمعهد الفن المسرحي والتنشيط الثقافي لم أفكر في أن أكون مغنيةسوبرانو أو فنانة الغناء الإيريريكي؛ فقط كنت عازمة على التخصص في المسرحالغنائي؛ الذي هو صنف غير متواجد كثيرا في العالم العربي؛ وتبقى مدرستيأو قدوتي في ذلك هي المدرسة الرحبانية؛ “فيروز” ففي سن التاسعة كنت أحفظأغاني فيروز وأقوم بتقليدها؛ فحفظت كل ريبرتوارها ومجموعة من الأدواروبقيت بالنسبة لي هي المدرسة النموذجية.
لماذا فيروز بالضبط؟
فيروز كانت تجيد الغناء الروحي للكنائس الشرقية الذي يسمى الغناء
السرياني؛ وحقيقة كنت أودي هذا النوع من الغناء منذ صغري؛ ومن الأشياء أو
العوامل الأخرى التي ساهمت في صقل موهبتي أكثر؛ إضافة إلى ما ذكرت سابقا؛هو أني أحاول أن أوظف كل ما اكتسبته من خلال تنقلاتي المختلفة بالمغرب؛
بحيث عشت في مختلف مناطق المغرب؛ بحكم عمل والدي في قطاع المياه
والغابات؛ دائما أحاول أن أستثمر كل الزخم الذي يعرفه مغربنا على مستوى
الطبوع الغنائية التراثية والفنية والتي عرفت هي أيضا تلاقحات مع ثقافات
وفنون دخيلة علينا من مجتمعات عربية وغير عربية؛ فدائما أقول أني محظوظة؛
وهو ما يجعلني أردد أن مسقط رأسي هو المغرب؛ وأنتمي إلى المغرب؛ وليس إلىجهة أو منطقة في المغرب.
متى كانت البداية الحقيقية للفنانة سميرة القادري؟
البداية الحقيقية لسميرة القادري؛ هي كجميع الأطفال؛ كنت غالبا ما
أشارك في الأنشطة المدرسية والمنزلية؛ وهنا لزلت أستحضر الوالد في مواسم
الصيف؛ بحيث يكون لدينا ضيوف؛ وبحكم اشتغاله كما قلت في المياه والغابات
كنا نقيم بين الفينة والأخرى خارج المدينة؛ في هذه الظروف والأجواء كنت
أستمع وأنا صغيرة إلى الاهازيج الشعبية الأمازيغية؛ تماويت مثلا؛ فأتذكر
لحظتها المايسترو موحا أوحمو الذي كان يحضر بين الفينة والأخرى إلى
منزلنا؛ فطبعا كل هذا الزخم الفني حاولت أن أستفيد منه وبقي حاضرا في
ذاكرتي.
وماذا عن المسار الدراسي؟
بالنسبة للمسار الدراسي كان لابد أن اختار بين الولوج إلى المدرسة
العليا للتجارة؛ أو معهد الفن المسرحي والتنشيط الثقافي؛ طبعا والدي لم
يعترضوا على متابعة الدراسة في المجال الفني فدرست في المعهد أربع سنوات؛
واستفدت الشيء الكثير؛ وكان لقائي حينها؛ وأنا لا زلت طالبةبالسوبرانو
الأول في المغرب صفية التجاني؛ وهو اللقاء الذي أثرى حياتي ومساري؛ فهذه
السيدة احتضنتني كثيرا وعلمتني؛ وأنا مدينة لها بالشيء الكثير؛ فهي لامست
منذ البداية أن لي طاقة معينة؛ فإلى جانب الطاقة الجسدية للتمثيل
والممارسة المسرحية والسينمائية آمنت أنه ممكن أن أتخصص في الغناء
الإيريكي؛ وبالرغم من ذلك فكنت واعية -رغم صغر سني- أن هذا الغناء
تقاليده بعيدة عن ثقافتنا؛ بل هي منعدمة تماما؛ يعاني من “التسلط”
و”التغريب” لأنه ببساطة يحكم عليه بكونه فن مستورد.
ماذا عن تجربتك في هذا المجال؟ وكيف اقتحمت هذا النوع من الغناء؟
حينما تخرجتوكأي طالبة؛ كانت لدي طموحات كثيرة، وكانت قاعدة
الاختيارات واسعة، كنت أفكر في مجال التمثيل؛ كما في قطاع التدبير
الثقافي، إعداد البرامج أو الإخراج؛ وفكّرت أيضا بأن أسافر خارج أرض الوطن
لأتابع الدراسة في الغناء المسرحي.
وحين أقول الغناء الأوبيرالي أو “الأوبرا” فهو الغناء الذي يشمل ويجمع ما
بين الغناء كأداء صوتي وما بين الأداء الجسدي، بمعنى غناء تؤدى فيه أدوار
مختلفة تفرض عليك أن تكون ذو تكوين أكاديمي لتؤهلك لأدائها بشكل احترافي
وراقي.
ولكن بعد التخرج ذهبت إلى مدينة تطوان وأخذتْ حياتي الفنية والمهنية مسارا
أخر؛ حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مراحل؛ الأولى هي التي جمعتني بمصطفى
عائشة.. اشتغلنا فيها جنبا إلى جنب على القصيد السمفونيوالمونودراما حول
المعتمد بن عباد؛ أديت فيها دور الرميقة أو عاشقة المعتمد؛ وهذه الأشياء
كلها كان لها خط عالمي لا يمكن للمستمع العادي أن يفهم هذه الأمور؛ وأقول
إن الإعلام كان صراحة ضعيفا في تقديم هذه الموسيقى الكلاسيكية؛ أو قل هذه
الموسيقى العالمة؛ مما جعل ثقافتنا وتقاليد الفنية والموسيقية في هذا
الإطار ضعيفة جدا.
أما المرحلة الثانية فهي المرتبطة بالبحث؛ أي الانتقال من السوبرانو؛
الغناء الأوبرالي واللّيد في تجربتي مع مصطفى عائشة إلى غنائيات المتوسط
وهي التجربة التي قرّبتني أولا للاشتغال على الأندلسيات شرق-غرب؛ وليس
فقط المالوف أو الغرناطي؛ فلابد من الإشارة بأن هناك عادات وتقاليد
مشتركة بيننا في المتوسط وباقي الدول في جنوب فرنسا؛ شمال إسبانيا؛ في
الأراضي المنخفضة حتىفحاولت أن أنبش في الذاكرة وأشتغل على هذه
النماذج؛ وكان كلما تعمقت في الأمر إلا وتعرّفت على جوانب ونماذج أكبر
وأوسع؛ فكنت أتساءل بشكل دائم؛ وأطرح تساؤلات عن الأوبرا والغناء
الإيريكي، بمعنى كيف سيكون مساري الفني والاحترافي؟ وما هي آفاقه إذ ما
تعلمت قواعد هذا الغناء أكاديميا؟ خاصة إذ ما علمنا وثان حلمي في هذا
الإطار كان هو أداء نصوص باللغة العربية والاشتغال عليها بقواعد هذا
النوع من الغناء.
وكيف حسمت القرار؟
صراحة استقيت مجموعة من الآراء حول ما إذ كانت اللغة العربية
صالحة أو قل قابلة للتطويع داخل القوالب الغنائية العالمية، فكان هناك
توجهين: الأول يقول بعدم إمكانية ذلك لأن اللغة العربية لها نوع من
الموسيقى ونوع من اللحنية، والتوجه الثاني يقول بإمكانية ذلك؛ وهو
التوجه الذي سار في رحابه الفنان والمؤلف الموسيقي مصطفى عائشة الرحماني
الذي وجدت لديه؛ في الحقيقة؛ نوعا من الاستناد الأكاديمي؛ خاصة وأنه سبق
أن اشتغل على الموضوع، ولكن في غياب أصوات أوبيرالية جعلت مشروعه الفنييتوقف؛ وبقي حبيس الرفوف منذ الستينيات من القرن الماضي إلى حدود
التسعينيات، أي حوالي ثلاثين سنة، فلما أتيت إلى تطوان وتعرفت على هذا
الفنان ودرست عنده الهرمونية، البيانو، والصولفيج بدأ النقاش بيننا حول
إمكانية الاشتغال مع بعضنا البعض.
وهل تمكنتم من الاشتغال معا؟
نعم؛ اشتغلنا سويا؛ في البدايةحول ما يعرف بـ”اللّيد” وهو؛ للإشارة؛
قالب موسيقي متعارف عليه في أوروبا، ظهر أول مرة في ألمانيا، غير أنه ليس
غناء أوبيراليا، لأن الأوبرا تتطلب إمكانيات كبيرة؛ سواء بشرية أو
غيرها، والكتابة لا تكون للصوت فقط؛ وتكون فرقة الغناء كبيرة.
“شوبير” اشتغل علي قصائد قصيرة؛ وأعطى شكلا جديدا في القوالب الموسيقية
الذي أصبح يعرف بـ”اللّيد”؛ وهو نفس الشيء الذي قاله مصطفى عائشة؛ حيث طلبمني؛ رحمه الله؛ الاشتغال على اللغة والكلمة العربية بالضبط، وإيصالها
للناس بشكل أعمق؛ وبالفعل قبلت العمل معه وركبنا صهوة المغامرة كما
يقال، والحمد لله أثمر العمل على تجربة فنية مهمة ووفقنا الله في ذلك؛
واشتغلت معه لمدة تزيد عن عشر سنوات.
هل كانت هناك أعمال في هذا الإطار؟
غنيت خلال هذه المدة أعمالا كثيرة، والحقيقة هي أعمال لم تخرج
للوجود؛ لأنه ببساطة كانت صعبة الفهم، والأرضية غير مؤهلة، فكانت تقدم
فقط لنخبة النخبة إن صح التعبير، صراحة كانت هناك مشاكل؛ لأنه ليس هناك
نقاد ولا من يقرأ العمل وتجسيره ويقدم التوضيحات الأكاديمية التي تقرب
الهوة ما بين المستمع والفنان، ويوضح فيما يندرج هذا النوع الغنائي؟ هل
يمكن أن يصنف مع الرحبانيات مثلا أو مع الأعمال الكلاسيكية.
هل ظل الوضع النقدي على حاله؟
الحمد لله فيما بعد كانت هناك أقلام تابعت التجربة؛ وأكدوا أنها
تجربة فريدة ومتميزة، بل تجربة رائدة، وعلى مستوى العالم العربي عرفت
فيما بعد أنه هناك أعمال جاءت من بعدنا بعشر سنوات، فقط نحن في الَمغرب
ربما لا نعرف كيف نسوق هذه الأعمال والأفكار الجديدة وكيف نخرجها إلى
الوجود، وبعدها كذلك عرفت بأنه هناك المؤلفة هبة قواس، وريم الطويل
ومجموعة من الفنانات الأكاديميات في لبنان، سوريا وفلسطين… وهي الدول
التي لها هذه التقاليد الفنية أكثر منا، وفي مصر أيضا؛ وكنا نلتقي ومنذ
سنة 2000 في إطار ملتقى مدارس البحر الأبيض المتوسط في إسطنبول الذي كانيجمع العديد من الممارسين في هذا المجال؛ وتعرفت ضمن فعالياته على مؤلفينموسيقيين وفنانين.
تعليقات
0