لحسن حداد
يبدو أن تغيير النظام الاقتصادي العالمي الحالي لكي يكون أكثر عدلا واستدامة هوضرب من الخيال وفي أغلب الأحوال أحلام يقظة لا غير. فمن جهة، تتحكم مصالح قوية ممركزة وجد متحكِّمة في دواليب السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والقضايا الجيوستراتيجية وفي المنظومة الاقتصادية العالمية الحالية. ومن جهة أخرى، بلغ الاقتصاد العالمي درجة متقدمة من التعقيد تجعل من الصعب فهم عناصره للفعل فيها بدرجة تضمن التحول والاستمرارية في آن واحد. ولكن مع توالي الأزمات الاقتصادية والسياسية وظهور أخطار حقيقية تهدد البشرية من جراء الاستغلال المهول للموارد، من الضروري التفكير في طرق وبدائل جديدة تضمن الرفاه واستمرار الحياة على الأرض دون ضياع للوقت مع العلم أن هامش الزمن المتبقي لإسعاف البشرية يتضاءل يوما عن يوم.
من يتحكم في العالم؟ هذا سؤال حيَّر كثيرا أتباع النظريات المؤامراتية لعقود من الزمن. ولكن جيمس كلاتفيلدر، العالم الفزيائي المهتم بتاريخ العلوم والأنظمة من وجهة نظر فلسفية وابستيمولوجية، قام ببحث علمي (بعيدا عن المقاربة المؤامراتية) حاول من خلاله الإجابة على هذا السؤال. ركَّز كلاتفيلدر على قاعدة معطيات ل37 مليون شركة وقام بغربلتها للوصول إلى 43 ألف شركة تشتغل في أكثر من دولة واحدة (حسب موقع أوتسايدر كلوب؛ انظر كذلك أندي كوغان ودبورا ماكينزي، “وأخيرا انكشف الأمر: الشبكة الرأسمالية التي تحكم العالم” في مجلة “نيو ساينتيست” 19 أكتوبر، 2011). وبعد ذلك قام بوضع “نموذج بصري يبين كيف ترتبط هذه الشركات بعضها ببعض عبر ملكية أسهم ورقم معاملات بعضها البعض.” النموذج البصري يبين وبطريقة مخيفة كيف أن 1318 شركة ترتبط ارتباطا وثيقا ببعضعا البعض.
في كتابه “فك شفرات التعقيد: الكشف عن أنماط الشبكات الاقتصادية” (2012)، يقول كلاتفيلدر: “كل من الشركات 1318 لها ارتباطات باثنين أو أكثر من الشركات الأخرى، والمتوسط هو الارتباط ب20 شركة. أضف إلى هذا أنه رغم أنها تمثل 20 ٪ من إيرادات التشغيل العالمية، يبدو أن الشركات 1318 تملك غالبية أسهم الشركات الكبرى في مجال البورصة (الرقاقات الزرقاء) ومجال الصناعة (الاقتصاد “الحقيقي”)، أي 60 ٪ إضافية من المداخيل العالمية. حين قام الفريق بفك تشابك شبكة الملكية، تتبع ذلك إلى “كيان فائق” يضم 147 شركة متماسكة أكثر فيما بينها، تملك أسهما في بعضها البعض وتستخوذ على 40 من من مجموع ثروة الشبكة.”
وجد كلاتفيلدر أن “730 مالك أسهم يتحكمون في 80 % من إيرادات الشركات المتعددة الجنسيات” (موقع أوتسايدر كلوب). أغلب هذه الشركات هي شركات مالية وجلها متواجد في الولايات المتحدة والملكة المتحدة.
الكثير منا يظن أن الأبناك الكبرى هي التي تتحكم في الاقتصاد العالمي وهو شيء نستهزيء منه على أنه نابع من فكر مؤامراتي لا يمت للواقع بصلة. ولكن كلاتفيلد شبه متأكد من أن لائحة العشر الأوائل تعطينا فكرة على أن هذا واقع قريب إلى الحقيقة منه إلى الخيال. وهذه هي القائمة: باركليز، كابيطال غروب كومابانيز، فمر كوربورايشون، آكسا، ستايت ستريت كوربراشون، ج ب مورغان، ليغال وجنيرال غروب، فنكارد غروب، يوبس أج، و أخيراميريل لينش. مورغان ستانلي وكولدمان ساكس وكريدي سويس موجودين ضمن الخمس وعشرين الأوائل (موقع أوتسايدر كلوب). بينما لا تحتل ميكروسوفت وإيكسون موبيل وشيل مواقع متقدمة. الشركة الأولى المنتجة لشيء حقيقي تحتل المرتبة 50 (وهي الصينية تشاينا بيتروكاميكال غروب كومباني). التسعة والأربعون شركة التي تتقدم عليها هي شركات مالية ما عدا “وال مارت” والتي تحتل المرتبة الخامسة عشرة.
هكذا تتحكم في الاقتصاد العالمي 48 بنكا وشركة مالية أغلبها متواجد في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
هذا النادي الصغير عددا والعملاق بقوته الاقتصادية الخيالية هو من يتحكم في القواعد والأسواق والمبادلات والسياسات المالية والتوجهات الاقتصادية. لايعني هذا، كما يحلو لأصحاب الفكر المؤامراتي تخيله، وجود مجموعة من المتمكنين في قبو معين يراقبون ويرصدون ويتخذون القرارات ويتحكمون في الاقتصاد والسياسة والحروب. ولكن قوة هذه المؤسسات في فرض رأيها على أصحاب القرار و في مقاومة التغيير وحماية مصالحها ومصالح شركائها قوية ومعروفة.
أول من سيقاوم التغيير نحو نظام اقتصادي منصف ومستديم هم هؤلاء. أي محاولة لتغيير النموذج يجب أن تأخد قدرة هذه الشركات مجتمعة على المقاومة وتقويض أي إصلاج يضر بمصالحها بعين الاعتبار. لهذا فأول شروط نجاح النموذج الجديد هو أن يكون ثورة مجتمعية عالمية، أن تكون حركة تتبناها المجتمعات كما تبنت الثورة في أوائل القرن العشرين أو الديمقراطية بعد انهيار حائط برلين أو الاستدامة في بداية القرن الواحد والعشرين.
النموذج الاقتصادي الرأسمالي والاستهلاكولكن ماهو هذا النموذج الاقتصادي الذي سيكون أكثر عدلا وأكثر استدامة والذي سيكون كفيلا بكبح جماح الشعبوية الصاعدة؟ علينا أن نفهم أولا أسس النموذج الحالي ونفهم التطورات المستقبلية للاقتصاد العالمي لكي نبني نظاما جديدا أكثر إنصافا وأقل تدميرا للموارد.
ينبني النموذج الاقتصادي الرأسمالي على الاستهلاك والاستهلاك أساسي للدورة الاقتصادية. ويقول ماينارد كينز إن الاستهلاك يعتمد على المستوى الحالي للدخل المتاح. والدخل المتاح حسب ويل كينتون “هو كمية المال المتاح للأسر للإنفاق والادخار بعد احتساب الضريبة على الدخل.” (“الدخل المتاح”، إنفيستوبيديا، تم تحيين المقال في 25 يونيو، 2019).
سعر السلع هو الذي يحدد درجة استهلاكها كما قال سوبريا كورو. هكذا “فالإستهلاك مرتبط وظيفيا بمستوى الدخل…حين يرتفع مستوى دخل مجموعة معينة، يرتفع استهلاكها كذلك” (“وظيفة الاستهلاك: المفهوم، نظرية كينز و خصائص مهمة” موقع “مكتبة مقالتك”).
وظيفة الاستهلاك حسب علماء الاقتصاد “النيوكلاسيكيين” (أي الغير الماركسيين) “هي الهدف الأقصى للنشاط الاقتصادي ولهذا فمستوى استهلاك الفرد الواحد هو قياس نجاح اقتصاد معين” (كريستوفر كارول، “الاستهلاك”، الموسوعة البريطانية). تاريخيا، كان تشجيع الاستهلاك أساس المرور إلى المرحلة الرأسمالية المتمثلة في نمط إنتاج مبني على وفرة السلع وضرورة بيعها لتحقيق أرباح متزايدة ومراكمة رأس المال لاستثماره مجددا وهكذا دواليك.
بالنسبة لكارل ماركس فأساس الاستهلاك هو الإنتاج وكلما ارتفع الانتاج كلما ارتفع الاستهلاك. لذا وجب تغيير نمط الإنتاج لتغيير نمط الاستهلاك. فالسلع المطروحة في السوق لا تُظْهِر، حسب ماركس، “العلاقة الاجتماعية بين الأفراد” (أي من ينتج ماذا؟ ومن يبيع جهدة لصالح من؟) بل تبدو وكأنها علاقة بين أشياء، أي ما يسميه ماركس “الفيتيشية التي تلتصق بالمنتوجات التي يخلقها الشغل حين يتم إنتاجها كسلع” (كارل ماركس، “الرأسمال”، بنجوين 1990، ص. 165). ما يعنيه ماركس بالفيتيشية هو تطور العلاقات في الأنظمة الرأسمالية من علاقات إنتاج (العمال ينتجون لصالح الرأسماليين) إلى علاقات بين الأشياء أي بين السلع. لهذا وجب إعادة تركيب مسلسل الإنتاج لإرجاع الجهد لأصحابه (أي العمال)؛ آنذاك لا نحتاج لمراكمة الإنتاج ودعم الاستهلاك الموازي له (وهذا مضمر وغير ظاهر عند ماركس) لأنه لن يبق هناك رأسمالي يشتري جهد العمال ويستحود على محصول جهدهم وشغلهم ويحول العلاقات معهم إلى علاقات بين أشياء.
ولكن ماركس لم يهتم بعدم تناغم الاستهلاك المفرط المطلوب في المنطق الرأسمالي مع التزايد الحتمي لنذرة الموارد. وحتى حين تطرق لنظرية توماس مالثوس حول التطور الديمغرافي وعدم قدرة الموارد على مواكبة هذا التطور فإن نقده كان لاذعا واهتم فقط بكون نظرية الديمغرافيا لدى مالثوس كانت غير تاريخية.
تاريخ الإفراط في الاستهلاكوالحقيقة هي أن مالثوس كان له السبق في إثارة إشكالية الموارد والتي أصبحت في وقتنا الحاضر قضية حياة أو موت. قبل التفصيل في هذا الأمر لا بد من التوقف عند موجة الإفراط في الاستهلاك والتي هي أساس تطور المجتمعات الغربية الحديثة ومن بعدها كثير من مجتمعات دول الجنوب.
رغم أن الاستهلاك المفرط يجد جدوره في القرنين الثامن والتاسع عشر غير أن تطوره المفاجيء إلى إيديولوجية فائمة الذات وقع في عشرينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة (أو ما يسمى “السنوات الحمقاء”) وتحول إلى أساس للدورة الاقتصادية في الخمسينات والستينات من نفس القرن.
في “العشرينيات الصاخبة” وصل الاستهلاك المفرط ذروته في الولايات المتحدة. في مقال معنون “الاستهلاك المفرط: وجهة نظر تاريخية” تقول شارون بيد إن ما وقع في الربع الأول من القرن العشرين هو توسيع قاعدة الاستهلاك لتشمل “الطبقات العاملة” بالإضافة إلى الطبقات المتوسطة وذلك لأن الإنتاج عرف نموا مهولا في الولايات المتحدة ما بين 1860 و 1920 حيث تضاعف على الأقل 12 مرة (أي 1200 % )، هذا في الوقت الذي لم يتطور فيه عدد السكان إلا بنسبة 300 %.
والاستهلاك المفرط هو اقتناء السلع بشكل جنوني جعل نسبة الدَّيْن لدى العائلات الأمريكية تصل إلى 80 % والتوفير يصل إلى أدنى مستوياته، بينما أدى الإنتاج المفرط وعدم قدرة الأمريكيين على مواكبته إلى كساد قياسي جعل البورصة تنهار في 1929 وينهار معها النظام البنكي وتتوقف الدورة الاقتصادية وتحط الأزمة الكبرى بأوزارها متسببة في تشريد وتفقير الملايين.
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وبعد تعافي الاقتصاد الأمريكي وتعافي أوربا من آثارالحرب العالمية الثانية المدمرة، عادت موجة الاستهلاك المفرط إلى الواجهة ولم تعرف تراجعا يذكر إلا مع الانهيار المالي ل2008 والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تبعته. في الخمسينات عرف الاقتصاد الأمريكي ازدهارا ملفتا للنظر، دفع الأمريكيين إلى تحويل مساكنهم إلى ضواحي المدن، وهي مساكن صارت أكبر وأفخر مما كان لديهم قبل عقدين من الزمن، ودفعهم إلى اقتناء سيارات ج.م. جديدة كل سنة أو سنتين؛ ظهرت الكورفيت في هذه الفترة وصارت رمزا للنزعة الاستهلاكية الجديدة. لم يعد الاستهلاك ذنبا حسب منظومة القيم المسيحية التقليدية. هكذا خرجت إلى الوجود متاجر التسوق العملاقة في ضواحي المدن وكذا سلاسل المطاعم مثل ماكدونالد وقاعات السينما والباولينغ وغيرها. و. (انظر كتاب دايفيد هالبرسطام، “الخمسينيات” نيويورك، بلانتاين بوكس،1993 ص. 144.) صار الاستهلاك في الخمسينات والستينات موضة اجتماعية عارمة حوَّلت المجتمع الأمريكي إلى مجتمع يعتمد على تلبية رغبات عابرة تصنعها شركات الماركتينغ بشكل يومي على شاشات التلفيزيون وأمواج الرادي
في هذه الفترة، لعبت هوليوود وأيقونات مثل مارلين مونرو وصوفيا لورين وكرايس كيلي وإليزابيت تايلور وأودري هيببورن وجين سيبارغ وغيرهن أدوارا تأسيسية في خلق صورة المرأة المتحررة من قيود التقليد والمفتونة بجسدها والتي صارت نموذجا في اللباس والماكياج والحياة الاجتماعية وقدوة للملايين من النسوة والرجال المهووسين بالرغبة الآنية والإحساس العابر وارتعاشة الجسد أمام فيتيشات اللباس والأكل والجنس والإحساس بالحرية. بل تطور الماركتينغ إلى حد خلق علاقة بين الهوية الاجتماعية للأفراد واقتناء سلع معينة (“تاريخ الاستهلاك”، موقع هيستوري كرانتش).
صار الاستهلاك أساس الاقتصاد حيث تطورت مؤشرات مدى اقتناء الأمريكيين للمنازل الجديدة وكذا مدى استهلاكهم للسلع المُعَمِّرة مثل السيارات واللوازم المنزلية الإلكترونية وغيرها وصارت دلائل على تعافي الاقتصاد أو “مرضه”.
انتقلت العدوى إلى الدول الغربية الأخرى في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وإلى دول الجنوب مع حلول القرن الواحد والعشرين. فصار الاستهلاك موجة عالمية زاد من قوتها صعود الطبقات الوسطى في الصين والهند ونيجريا والباكستان والبرازيل وروسيا والشرق الأوسط ودول جنوب شرق آسيا وأوربا الشرقية. الاستهلاك من أجل الاستهلاك؛ رغبات جديدة طفت على السطح حول من هو قادر على شراء آخر الموضات والماركات والكادجيتات. ظهرت أجيال جديدة مثل “الجيل الإيكس” و “الجيل الألفي” وغيرهم من الشباب المتقوقع حول الذات والجسد ورغباته المركبة والتي يتم إشباعها عبر اختراعات آبل وأمازون وغوغل وفايسبوك ونايكي ودولتشي غابانا وهوليستر وغيرها.
الاستهلاك والأثر على الطبيعة والموارداستهلك الفرد الواحد في الولايات المتحدة في متم 2017 (حسب بنك معطيات البنك الدولي) أكثر من 36000 دولار كمعدل سنوي بينما استهلك الفرد الواحد في الصين أقل من 3000 دولار (وفي المغرب حوالي 2000 دولار). هذا يعني أن الفرد الواحد في أمريكا يستهلك 12 أضعاف ما يستهلكه الصيني (و 18 أضعاف ما يستهلكه المغربي.) “الأثر البيئي” على الأرض (أي التأثير على الموارد الطبيعية الموجودة في المنظومة الإيكولوجية) ل 300 مليون أمريكي هو ثلاثة أضعاف ما يستهلكه مليار و300 مليون صيني. هذا يعني أن الثقل الديمغرافي لا يكمن في عدد السكان ولكن في مدى تأثير هؤلاء على الأرض ومواردها ومستقبل الأجيال القادمة.
من جهة أخرى، تقول منظمة “شبكة الأثر الإيكولوجي على الطبيعة العالمية” (كلوبال فوتبرينت نيتوورك) إن البشرية وصلت يوم 29 يوليوز 2019 نقطة استهلاك كل الموارد القابلة للتجدد لسنة 2019. أي أننا ابتداء من 30 يوليوز بدأنا كبشرية نستهلك موارد 2020.وهذا يعني أننا “نتقدم” (أو بالأحرى نتأخر) كل سنة في استهلاك يفوق بكثرة قدرة الأرض على تجديد مواردها: في 2019، وصلنا إلى نقطة الصفر في يوليوز مع العلم أننا كنا نصل إليها قبل أكثر من عشرين سنة (1997) في أواخر شتنبر . أي أننا تقدمنا نحو هلاك موارد الأرض بشهرين خلال عشرين سنة. و إن لم نفعل شيئا فسوف نصل إلى استهلاك كل موارد السنة القابلة للتجديد في غضون أقل من خمسين سنة.
اقتصاد “الكعكة” حسب كيت راورثلهذا فالنموذج الاقتصادي الحالي المبني على الاستهلاك والاستهلاك المفرط غير مستديم وسيقود إلى نفاذ موارد الأرض وهلاك البشرية في المستقبل الغير بعيد جدا.
كتب جورج مونبيوت مقالا مهما نشره على صفحات الكارديان في أبريل 2017 سماه “وأخيرا، اختراق بديل لاقتصاد النمو—الكعكة”، ووضع له نوانا ثانويا أكثر إثارة: “عوض النمو مهما كلف الأمر، نموذج اقتصادي جديد يضمن الازدهار مع المحافظة على كوكب الأرض.” الساسة ورجال الاقتصاد عبر العالم الذين يركزون على النمو لا يعيرون اهتماما لكونه يؤدي إلى “الدمار الإيكولوجي” وأنه “فشل في تجاوز البطالة المزمنة” ولم يضع حدا للفوارق الاجتماعية وأن “تقريبا كل الزيادات في الدخل” استفاد منها 1 ٪، أي الأغنياء، يقول مونتبيوت، مضيفا أنه “بعد فقدان المباديء والغاية الأخلاقية” فإن سراب “النمو هو الشيء الوحيد الذي بقي لنا.”
المقال هو عبارة عن قراءة لكتاب العالِمة الاقتصادية الانجليزية “كيت راورث” “اقتصاد الكعكة: سبعة طرق للتفكير كعالِم اقتصاد حقيقي ينتمي للقرن الواحد والعشرين” والذي صدر في 2017. تقول راورث إن “النمو الاقتصادي”…”لم يكن يعني أبدا رفاه الشعوب” (مقال مونتبيوت). وحتى سيمون كوزنيتس، عالم الاقتصاد الأمريكي من أصول بيلاروسية، والذي وضع نموذج قياس “النمو” كان حسب مونتبيوت قد نبه إلى أن النمو (أي نمو الدخل الوطني”) لا يعني الرفاه.
وتقول كيث راورث إن النمو يعني خطا تصاعديا غير محدود لا في الزمن ولا في قدرة المنظومة الإيكولوجية على تحمل نشاط اقتصادي لا متناهي. لهذا وجب تغيير هدف النشاط الاقتصادي وتركيزه على التجاوب مع “حاجيات الكل حسب قدرات كوكب الأرض.” بدل اقتصاديات تنمو “رغم أنها لا ترفع من درجة رفاهنا” علينا التأسيس “لاقتصاديات تجعلنا ندرك الرفاه سواء نمت هذه الاقتصاديات أم لم تَنْمُ” (الكلام لراورث؛ استشهاد مونتبيوت).
ألقت كيث راورث محاضرة في 2014 في أثينا (تيد توكس أثينا) شرحت فيها بشكل دقيق ما تعنيه بمقاربة “كعكة دونات” (أو مايسميه المغاربة “الاسفنجة”). تقول راورث بأن الرهان الذي يجب أن نربحه كبشرية مهددة بالانفحار الديمغرافي ونمو الطبقة المتوسطة المرتفعة الاستهلاك وبالتغيرات المناخية واندثار الموارد الطبيعية هو ضمان الكرامة والحقوق للكل (أي إخراجهم من مناطق الفقر والتهميش والهشاشة) وفي نفس الوقت كبح جماح الأخطار التي تهدد الأرض من احتباس حراري، ونذرة الماء، وارتفاع كمية النيتروجين في الأسمدة المستعملة في الفلاحة، وتدهور التنوع الطبيعي النباتي والحيواني، والتي يسببها الاستغلال المفرط والغير الرشيد للموارد.
حركة عالمية من أجل نظام اقتصادي جديديجب اعتماد نموذج جديد لا ينبني على النمو التصاعدي والاستهلاك المفرط ولكن على ضمان الكرامة للكل في إطار احترام قدرة الأرض على التجاوب مع المتطلبات اليومية للأفراد والمجموعات. علينا أن نضع نموذجا اقتصاديا جديدا مبنيا على التوازن وأكثر عدلا وأكثر استدامة وأكثر تجاوبا مع التطلعات المتزايدة لشرائح عديدة من الشباب والطبقات الوسطى والفئات الهشة أو تلك التي تحس بالإقصاء أو الظلم أو الغبن؛ وهذا النظام يقتضي استهلاكا عقلانيا مبنيا على الحاجيات الأساسية (لا على الحاجيات المفبركة من طرف عمالقة الماركتينغ) واستغلالا رشيدا للموارد يعطيها القدرة على التجدد دون تقويض منابعها ومصادرها.
ويقتضي هذا النموذج إعادة توزيع أكثر عدلا للمداخيل عبر أنظمة ضريبية منصفة، والتركيز على الاقتصاد التضامني والتعاوني، وعلى المقاولات الصغرى والعائلية، وتشجيع القطاعات الخالقة لفرص الشغل مثل الخدمات والسياحة والصناعة الثقافية والفنية والتكنولوجيا، ووضع تصور للاستفادة من الأتمتة والثورة الصناعية الرابعة، وهدم الهوة الرقمية بين الدول والجهات، والتقليص التدريجي للاعتماد على الاستهلاك كأساس للدورة الاقتصادية لضمان استدامة الموارد، وتشجيع التمويل المُشترَك والمُواطِن للمشاريع، وتطوير التدوير والاقتصاد الأخضر والطاقات المتجددة، والمدن الذكية والمستدامة…
نحتاج لثورة اقتصادية جديدة تخلق الأمل وتفتح آفاقا جديدة وتعطي دفعة جديدة لتقدم البشرية ولتجاوز الأزمات المتوالية والتي نعيش على وقعها منذ سنوات. وهذه الثورة لا يمكن أن تكون دون تعبئة ذات أبعاد عالمية للشباب والطلبة والمثقفين والعمال والنساء والمدن والأرياف والقبائل والمجتمع المدني ورجال ونساء الإعلام ليدقوا جميعا ناقوس الخطر ويقودوا حملة عالمية لتغيير النموذج الاقتصادي المعتمَد حاليا والذي يقود لا محالة إلى خراب الأرض وتهديد صارخ للحياة عليها.
والتغيير يبدأ من الذات: على الكل أن يركز استهلاكه على ما هو أساسي وما هو ضروري؛ ألا ينساق وراء الحاجيات المفتعلة من طرف خبراء الإشهار والماركتينغ والإعلام التجاري؛ أن ينخرط في وسائل التوزيع التضامنية والبديلة؛ أن يؤسس لشبكات التمويل التصامني للمشاريع؛ أن يتساءل ما هو أثر فعله ونشاطه على الأرض ومواردها وقدرتها على التجدد؛ أن يعيد علاقته بالأرض وبالموارد وبالحيوانات ويجعلها مبنية على الاحترام والتوزان والأخلاق والمسؤولية…
على الحكومات والقادة السياسيين أن يدركوا أن النمو لم يعد يخدم إلا شرائح ثرية من المجتمعات؛ وأن الكرامة للكل في إطار سقف معلوم حول قدرة الأرض على تحمل النشاط الإنساني هي الوسيلة الوحيدة لتدبير اقتصادي عقلاني؛ وأن المؤشرات الحقيقية هي التغلب على الفقر والهشاشة والتهميش والبطالة في ظل حفظ التوازنات مع قدرة الموارد على التجدد؛ وأن الرأسمال الشرس والشركات العملاقة والمؤسسات البنكية المتحكمة في ذواليب الاقتصاد العالمي لم تعد مصادر وفرص للتنمية بل قد تكون عوائق لها. وأن نموذجا اقتصاديا أكثر عدلا هو أحسن وسيلة لكبح جماح الخطر الشعبوي المتصاعد.
أخيرا، علينا أن نجد الوسيلة المثلى للتعامل مع التحولات العميقة التي أتت وستأتي بها الثورة الصناعية الرابعة في ميدان الإنتاج والتشغيل والتواصل والتنقل واللوجستيك والسفر وغيرها. تسببت الأتمتة في تسريح الكثير من العمال مع أنها ترفع من إنتاجية المقاولات بأكثر من 200 %. ولكن الأتمتة فرصة لجعل الآلة والربوطات في خدمة كرامة الإنسان. لا يجب فقط استعمالها للرفع من الإنتاح وتشجيع الاستهلاك المفرط ولكن لتسهيل الولوج إلى الدواء والعلاج بالنسبة للمجموعات المعزولة والنائية، ودعم ولوج الساكنة، صغارها وشبابها، للتعليم والتكوين عن بعد، والرفع من إنتاج الضيعات الصغيرة للغذاء المستهلك محليا، والرفع من قدرة الأشخاص المعاقين على التنقل، وإيصال المعلومات والأغذية للمناطق المنكوبة، ومراقبة عمليات إعادة التشجير الحيوية فيما يخص محاربة التصحر وحماية التربة من الانجراف، وتقديم الخدمات للمسنين والعجزة الذين لا عائلات لهم، ومحاربة الأوبئة وغزو الجراد، وغيرها من الأمور والمجالات.
كل هذا سوف لن يعوض عن فقدان الشغل ولكن يجب تصور عمل روبوط معين على أنه شغل معين يجب فقط ربطه بشخص أو بأشخاص معينين وأداء مقابل عن ذلك العمل لهؤلاء الأشخاص.
أفلاطون تصور المدينة الفاضلة على أنها جمهورية يخدمها العبيد ويحكمها الفلاسفة (دون الشعراء). المدينة الفاضلة في عهد الأتمتة في القرن الواحد والعشرين يمكن تصورها على أن الربوطات هي من يقوم بالعمل بينما ينعم الإنسان بكرامته منغمسا في الفكر والشعر والرياضة والترفيه والعمل الإنساني والاجتماعي والخيري. هذا حلم ولكن أساس التقدم الحقيقي يبدأ من الحلم. فلنحلم حميعا بمستقبل أفضل بكثير مما نحن عليه الآن. مستقبل مستديم وعادل، يضمن العيش الكريم للكل.
تعليقات
0