إيمان لعوينا باحثة في العلوم السياسية و خبيرة و ناشطة في المجتمع المدني
بعد تفشي وباء كوفيد 19 المستجد، وإعلانه من طرف منظمة الصحة العالمية جائحة عالمية في 11 مارس 2020، حيث دعت جميع دول العالم إلى ضرورة اتخاذ ما يلزم من التدابير لمحاصرته والحد من انتشاره، سارعت الحكومة المغربية إلى اتخاذ إجراءات وتدابير مشدّدة بحجّة منع انتشار الوباء و فرض حالة الطوارئ الصحية اعمالا للفصل 81 من الدستور، حيث صادقت على مرسوم بقانون رقم 2.20.292 مؤرخ في 23/03/2020 والذي يؤهلها وحدها لإعلان حالة الطوارئ الصحية بالمغرب. كما صادقت على مرسوم رقم 2.20.293 مؤرخ في 24/03/2020 الذي أعلنت بواسطته حالة الطوارئ الصحية،وتم نشر هما بالجريدة الرسمية بتاريخ 24/03/2020 .
وعقب هذا الإعلان ، تم اتخاذ كافة الاجراءات الحكومية الفعالة للحيلولة دون تفشي هذا الفيروس، وحماية المجتمع من تداعياته على الصحة العامة للمواطنين.
وتجدر الإشارة أن القانون الدولي أيضا، يوفر إطاراً مناسبا وملزما لمساعدة الحكومات على التحرك بسرعة مع مراعاة أن يتم ذلك مع احترام لحقوق الإنسان، في استجابتها لأزمة الصحة العامة التي تسبب فيها تفشي وباء كوفيد 19.
فما هي المعايير الدولية واجبة التطبيق في هذا الإطار؟ وكيف يمكنها حماية حقوق الإنسان الأساسية والحريات العامة المضمونة بحكم القوانين الدولية والوطنية؟
بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي صادقت عليه أغلب بلدان العالم- وهو معاهدة
متعددة الأطراف اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966 ودخلت
حيز النفاذ في الثالث من شهر يناير 1976- ،
فإنه لكل شخص الحق في التمتّع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية ،كما يلزم كل الحكومات، دون استثناء، باتخاذ خطوات فعّالة
من أجل “الوقاية من الأمراض الوبائية والمهنية وغيرها من الأمراض وعلاجها
ومكافحتها”.
وقد جاء في بيانات لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية، التي ترصد امتثال الدول لهذا العهد ، ما يلي:
“يرتبط الحق في الصحة ارتباطاً وثيقاً بإعمال حقوق الإنسان الأخرى ويتوقّف عليها، على النحو الوارد في الشرعة الدولية لهذه الحقوق
،بما في ذلك الحق في الغذاء والسكن والعمل والتعليم والكرامة الإنسانية والحياة
وعدم التمييز والمساواة ،وحظر التعذيب والخصوصية، والحصول على المعلومات، وحرية تكوين الجمعيات والتجمع
والتنقل.
وينص الحق في الصحة على أن تكون المرافق والسلع والخدمات الصحية على الوجه
التالي:
- 1. متوفرة وبكميات كافية.
- 2. في متناول الجميع دون تمييز، حتى الفئات المهمشة.
- 3. مقبولة، بمعنى احترام الأخلاق الطبية وأن تكون مناسبة ثقافيا، ومناسبة علميا وطبيا وذات نوعية جيدة.
كما تنص ما يُعرف بمبادئ سيراكوسا، وهي جملة المبادئ التي اعتمدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة عام 1984، على أن هذه القيود ينبغي أن تكون في حدودها الدنيا، ويجب أن تكون:
- قانونية، أي أن ينصّ عليها قانون ساري المفعول، وأن يتمّ تنفيذها وفقا للقواعد والإجراءات القانونية القائمة؛
- موجهة لتحقيق هدف مشروع ضمن المصلحة العامة وأقل تقيدا وتدخلا لبلوغ الهدف
- ضرورية في مجتمع ديمقراطي، وأن تكون الغاية منها تحقيق الهدف الذي من أجله تم اللّجوء إليها؛
- أقل تدخلاً وتقييداً، من بين ما هو متاح من القيود، لبلوغ الهدف؛
- مستندة إلى أدلة علمية، وغير تعسفية أو تمييزية عند التطبيق؛
- محدودة المدّة، وتحترم الكرامة الإنسانية، وخاضعة للمراجعة
من جانبها، أوردت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في جملة تعليقاتها العامة حول حالات الطوارئ وحرية التنقل، توجيهات واجبة الاتباع بشأن استجابات الحكومات التي تقيّد حقوق الإنسان من أجل أسباب الصحة العامة أو الطوارئ الوطنية لأن من شأنها الحدّ من حقوق الناس وحرياتهم، فيجب أن تكون قانونية وضرورية ومتناسبة، كما يجب أن تكون حالات الطوارئ محدودة المدة زمنيا، وينبغي على أي تقليص للحقوق ،الأخذ بعين الاعتبار الأثر غير المتناسب على فئات سكانية محددة أو مهمشة.
وعليه فإن إعلان حالة الطوارئ الصحية من طرف السلطات الحكومية ، قد تم خلالهتطبيق كل الشروط السابقة الذكر ، ومع ذلك واجهت السلطات العمومية تحديات كبيرة تتعلق أساسا بتقييد حريتي التجوال والتنقل ،فلم يتعود المواطن (ة ) المغربي على تقيدها لاسيما الأجيال الشابة ،فمنذ حوالي 4 عقود انخرط المغرب في جملة من اصلاحات تهم حقوق الإنسان فتحت المجال لدسترة الحريات العامة والحقوق الأساسية في دستور 2011، أفرد إليها الباب الثاني من الوثيقة الدستورية ضمت أزيد من 22 فصل.
لكن حلول جائحة كوفيد 19 فرضت نمطا جديدا للحياة يستدعي الابتعاد ما أمكن عن الفضاء العام وارتياده للضرورة القصوى، مع الأخذ بكل الاجراءات الضرورية للوقاية،لصالح المكوث في الفضاء الخاص والاكتفاء بما يتحيه من حماية وأمان.
وحيث أن نمط السكنى الذي فرضته الحياة المعاصرة والظروف الاقتصادية على الواقع المعيشي للغالبية العظمى من المواطنين ، الذين يقطنون اليوم في شقق صغيرة أو متوسطة محدودة المساحة ،يجدون في الفضاء العام بما هو متاح من حرية للتنقل، متنفسا وملاذا لممارسة جميع الحقوق والحريات الأخرى باستثناء الحق في الحياة الخاصة .
وعليه فإن مغرب ما بعد الوباء هو مغرب مراجعات كل الاستراتيجيات والمقومات الأساسية لضمان حياة أفضل لمواطنيه، ومن ضمنها ما يتعلق بسياسة المدينة لأنسنة الفضاء العام والفضاء الخاص معا بالتزام شروط ومعايير محددة للعيش بكرامة بعيدا عن منطق العلب الاسمنتية التي يختنق بداخلها المواطن ويفجر شعوره بعدم الرضا برفضه النهوض بواجباته اتجاه المجتمع والدولة .
لذلك فإن أبعاد سياسة المدينة اليوم أكثر من ذي قبل ،هي شاملة للجوانب المجالية والاقتصادية والثقافية والبيئية والحضارية، وبدرجة أولى الاجتماعية، وعلى الجهات المختصة أن تعيد النظر في الأنساق المختلفة المتعلقة بالحق في السكن ، والتهيئة الحضارية فإذا ما أردنا للمواطن أن يلتزم بأقصى درجات الانضباط للحجر الصحي وتقييد حرية التنقل والتجوال، فيجب بدرجة أولى أن نوفر له فضاء خاصا حاضنا ودامجا ..
تعليقات
0