بقلم ذة. إيمان لعوينا
مما لا شك فيه أن جميع الديمقراطيات العريقة تعتبر المجتمع المدني تلك السلطة المتواجدة بين الأسرة والدولة، والعاملة على تحقيق مصالح المجتمع وضمان استقراره لترسيخ السلم الاجتماعي ونشر ثقافة التراضي والتعايش والمواطنة والاشراك.
وقد عمل المجتمع المدني بالمغرب على إنجاح التحول الديمقراطي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتجسير مرحلتين أساسيتين: مرحلة الانحباس السياسي استمرت إلى بداية العقد الأخير من القرن العشرين، ومرحلة الانفراج السياسي الموالية والتي شهدت تعديلين دستورين متتالين: تعديل 1992 وتعديل 1996 ، وتشكيل حكومة التناوب والانتقال السلس للعهد الجديد بالمغرب ،عرف خلالها إنجاز أكبر عملية مصالحة للدولة مع ماضيها وطي ملفات الاعتداءات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ثم مرحلة الانفتاح السياسي لسنة 2011 ،التي ساهم المجتمع المدني اليقظ والحي في انجاحها ، من خلال مشاركته في إعداد الوثيقة الدستورية الجديدة بتقديم مذكراتاقتراحية إلى اللجنة الملكية الاستشارية لاعداد الدستور ، بلغت حوالي 136 مذكرة.
وتجدر الإشارة إلى أنه أول مرة في تاريخ الدستورانية بالمغرب سيتم اعتماد المقاربة التشاركية لصياغة الدستور ، باشرك جميع القوى المجتمعية الحية في صياغيته : سواء أحزاب سياسية، نقابات مهنية، مجتمع مدني ، قطاع خاص ، أكاديميون….
الا أنه قبل الخوض في الآثار ذات الصلة بالتحولات الكبيرة لإقرارها على مناخ الحياة العامة بعد 2011، لابد من التذكير بمعطى موضوعي هام، ساهم في تعجيل وقوع هذه الإصلاحات ، ألا وهي الانتكاسة الديمقراطية التي شهدها المغرب في العقد الأول من القرن الحالي، والتي جعلت الدولة تتراجع عن تعزيز ميكانزمات الانفتاح السياسي ، مع تصاعد موجة الإرهاب والتطرف العالمي بعد حربي الخليج الأولى والثانية وما خلفته من تداعيات خطيرة على العالم ، قاست المغرب و انعكست على المناخ العام السياسي، الذي اتسم بالتراجع وفقدان الثقة في الحياة العامة ،وصعود التيارات الاحتجاجية الفئوية واتساع حركة الإضرابات داخل قطاعات مهمة : التعليم ،الصحة، العدل ،الإدارة …مما هدد في العمق السلم الاجتماعي عامة.
وبالعودة إلى لحظة ما بعد إقرار الوثيقة الدستورية لسنة 2011، والتي اعتبرت وثيقة متقدمة جدا على مستوى دسترة الحقوق والحريات الأساسية وتعزيز فصل السلط على أساس توازنها و تعاونها ، وإقرار الثوابت الأربعة الجديدة لنظام الحكم بالمغرب: الدين الإسلامي السمح ، الملكية دستورية ديمقراطية ،اجتماعية وبرلمانية، الوحدة الوطنية متعددة الروافد والاختيار الديمقراطي القائم على مبادئ : الديمقراطية المواطنة والتشاركية، ربط المسؤولية بالمحاسبة ،والحكامة الجيدة .
فإلى أي حد ساهم المجتمع المدني في تعزيز الاختيار الديمقراطي أثناء مراحل التنزيل الدستوري؟ وما هي السمات الأساسية لهذا المجتمع ما بعد 2011، وماهي الآليات الجديدة التي فتحت المجال أمام المشاركة المواطنة؟ وكيف يمكن تقييم حصيلتها اليوم اعتمادا على تفعيل مبدأي ربط المسؤولية بالمحاسبة و الحكامة الجيدة؟
سنة 2011/2012 بالمغرب بلغ عدد الجمعيات بالمغرب حوالي ،50000 جمعية ، وهو مؤشر كمي مهم على ولوج المغاربة للحياة العامة عبر بوابة الجمعيات، بعدما كان هناك عزوف في سنوات خلت عن هذا الولوج مخافة التعرض لمضايقات ،و السمات الغالبة على المجتمع المدني بالمغرب والتي أهلته للمساهمة في تعزيز الاختيار الديمقراطي هي كالتالي:
- أنه يؤمن بالعمل من داخل المؤسسات ، وتدرب على العمل المنظم ،وينبذ العنف .
- أنه حريص على احترام القانون ويؤمن بالتعددية والتشاركية والتراكمية، ولديه حس عال من اليقظة الشعبية .
- أنه مؤهل إلى حد ما إلى الانخراط في العمل بآليات الديمقراطية التشاركية التي جاءت بها الفصول الدستورية 12 ، 13 ، 14 ، 15 ، 139 …والتي لخصت مجالات المشاركة المواطنة في :
- المساهمة في إعداد القرارات والمشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية.
- المشاركة في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.
- تقديم ملتمسات التشريع .
- تقديم العرائض للسلطات العمومية والمنتخبة.
- تعزيز مسار دمقرطة وحكامة القرار العمومي عن طريق التشاور .
وقبل تقييم حصيلة المشاركة المواطنة بالمغرب خلال مرحلة التنزيل الدستوري وما وصلت إليه للحظة الراهنة ، لابد من الإشارة إلى أن دسترة هذه الأدوار الجديدة للمشاركة المواطنة، ساهمت بقوة في تعزيز التمايز ما بينالسياسي والمدني ، حيث تم تحديد اختصاصات كل من ممثلي الديمقراطية التمثيلية بمختلف مؤسساتها، وممثليي الديمقراطية التشاركية بمختلف مكوناتها، فأصبح هذا الأخير أكثر من ذي قبل قوة مؤثرة في مسارات التنمية المستدامة وتعزيز مكانة التشغيل الجمعوي والولوج إلى الاقتصاد التضامني والاجتماعي، وتجاوز الأدوار التقليدانية للجمعيات وتيسير ترافع المواطنين عن قضاياهم التي تلامس كل مناحي الحياة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية وغيرها..
وأيضا ساهم المجتمع المدني بقوة في تنشيط الحياة السياسية وتعزيز مسار البناء الديمقراطي من خلال الأدوار الرقابية التي تتلخص في الآتي:
- البعد التثقيفي من أجل دفع فئات مجتمعية مختلفة إلى إدراك حقيقة أن الانتخابات الشفافة ، هي أفضل وأسلم وسيلة للتبادل السلمي على السلطة وتحسين جودة حياة المواطن ، عبر نشر الوسائل التعريفية حول طبيعتها وكيفيات الاقتراع وأنماطه..
- بعد التتبع : من خلال مراقبة العمليات الانتخابية وجميع الأنشطة المتعلقة بها ،من الدعاية وصولا إلى يوم الاقتراع ورصد الخروقات التي تشوبها والتبليغ عنها.
- البعد التقييمي : عن طريق إصدار تقارير تخص سير العمليات الانتخابية واطلاع الرأي العام عليها.
والأكيد أن قيامه ببعض مهام حراسة الديمقراطية خلال مرحلة البناء الديمقراطي ساهم في انجاح محطتين ديمقراطيتين أساسيين:
الاستحقاقات الجماعية لسنة 2015 ، والاستحقاقات التشريعية لسنة 2016 .
أما فما يتعلق بتقييم مسار المشاركة المواطنة خلال هذه المرحلة فيمكن القول أن هناك تفاوت في إعمال آلياتها سواء ما يتعلق بالمواطن(ة ) ، أو المدبر العمومي ،فهناك جوانب إيجابية تتجلى في :
- نجاح الدولة في تجربة الحوارات العمومية التي استعملت فيها آلية التشاور العمومي بشكل موسع، مما أفضى إلى إعداد سياسات عمومية راشدة كالحوار الوطني من أجل المجتمع المدني أو حوار إصلاح منظومة العدالة.
- إصدار الآليات القانونية ذات الصلة ، وهي القوانين التنظيمية للحق في تقديم العرائض ، والحق في تقديم الملتمسات ، والقوانين التنظيمية للجماعات الترابية المتضمنة للآليات التشاركية للحوار والتشاور –
- · ارساء الآليات المؤسساتية للديمقراطية التشاركية تحديدا: لجنة العرائض لدى رئيس الحكومة، لجنة العرائض لدى مجلس النواب، الهيئات التشاورية لدى مجالس الجماعات الترابية.
- تكثيف جهود تأهيل منظمات المجتمع المدني لتملكها وتفعيلها من خلال برامج تقوية القدرات الخاصة بالديمقراطية التشاركية المنجز من طرف الدولة والمجتمع المدني .
- القيام بحملات تعريفية واسعة بأهميتها وإطلاق منصات الكترونية لاكتسابها لا من طرف الدولة أو الجمعيات .
- تطوير بعض مجالس الجماعات الترابية لأدائها التشاركي، بادماج العمل بأدوات جديدة: كالميزانية التشاركية، مجالس الأحياء، التخطيط الاستراتيجي التشاركي قصد إنجاز برامج عمل الجماعات والسهر على تفعيلها.
ومع ذلك فإن هناك جوانب قصور يمكن اختصارها في الآتي:
– محدودية إقبال المواطنين على آلية العرائض ،والتي بلغت لغاية نهاية 2019 : 212 عريضة مقدمة لمجالس الجماعات الترابية، قبلت نسبة 49% منها وأدرجت كنقط في جدول أعمال المجالس واعتمدت من طرفها ، و7 عرائض للسلطات العمومية ستة منها لرئيس الحكومة وواحدة لرئيس مجلس النواب قوبلت كلها بالرفض لأخطاء في المساطر الشكلية، أما ملتمسات التشريع فلم يتم تقديم أي مقترح في هذا الشأن ،كما أن أدوار الهيئات التشاورية المحدثة لدى مجالس الجماعات الترابية محدودة جدا وأغلبها يعيش حالة جمود كبرى .
وأخيرا يمكن الجزم أن الديمقراطية التشاركية المواطنة في المغرب ،ساهمت من رفع وعي المجتمع بقضايا الشأن العام وتتبعها و الضغط على صناع القرار من أجل تحصيين البناء الديمقراطي واحترام المؤسسات وتخليق الحياة العامة،و تفعيل الحكامة الجيدة ،حفاظا على المال العام وترشيد العمل الإداري وضبطه، و التوجيه السليم للسياسات العمومية نحو صوابية أكبر من خلال الآراء والتوصيات والتقارير الصادرة عن مؤسسات الحكامة الدستورية ،والدفع بتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لأن المدبر العمومي اليوم لم يعد يسعفه فقط أن يتحلى بكل قيم النزاهة والشفافية والدراية والمعرفة والخبرة، بل ان تدبيره مرتبط بالنتائج والمردودية والأثر الملموس، الذي يقيسه المواطن بقوة ويلمسه في آجال قريبة مما ينعكس على جودة حياته العامة والخاصة.
تعليقات
0