- بقلم : عزيز لعويسي
منذ مصرع المدعو “الداه البنديـر” قبل أسابيع، اختفى زعيم الميليشيات إبراهيم غالي عن الأنظار لأسابيع، تاركا زوبعة من الجدل حول مكان تواجده وحقيقة مرضه أو إصابته، خصوصا في ظل الأنباء التي تم تداولها إعلاميا في كونه نجى من الموت جراء القصف الجوي الذي استهدف البندير وعدة عناصر قيادية من البوليساريو، وبعد أسابيع من التكتم في أوساط كبرانات الجزائر ودميتها البوليساريو، دق جرس الفضيحة المدوية، معلنا عن وصول إبراهيم غالي إلى إسبانيا مثن طائرة رئاسية بجواز سفر جزائري مزور باسم “محمد بن بطوش” لأسباب وصفتها السلطات الإسبانية بالإنسانية.
فضيحة بكل المقاييس، تجعلنا أمام ممارسة غير مسؤولة، لا يمكن فهمها أو تصورها إلا داخل نطاق ما تقوم به شبكات العصابات المنظمة والجماعات المتطرفة، من تزوير لوثائق الهوية وانتحال للأسماء والصفات، من أجل التمويه والتغطية على الأنشطة الإجرامية، وضمان الشروط الدنيا التي تسمح بالتنقل والتحرك والتواصل، ولم تتوقف الفضيحة عند تزوير وثيقة رسمية مرتبطة بسيادة الدولة الجزائرية، بل امتدت حدودها لتشمل تهريب شخص ملاحق من طرف القضاء الإسباني لتورطه في قضايا إجرامية مرتبطة في شموليتها -حسب المعطيات المتداولة إعلاميا- بالإبادة الجماعية والقتل والاعتقال القسري والاختفاء والاختطاف والاغتصاب والعنف وغيرها من الممارسات الإجرامية.
تهريب شخص مجرم ملاحق من طرف القضاء الإسباني باستعمال جواز سفر مزور وبهوية كاذبة أو مستعارة، وتسخير طائرة رئاسية في عملية التهريب، يعد أفعالا جنائية بامتياز يقف وراءها كبرانات الجزائر، كما يعد ممارسة ماسة بهيبة الدولة وصورتها على المستوى الإقليمي والدولي، وانتهاكا صارخا لما يؤطر المنتظم الدولي من اتفاقيات ذات صلة بمكافحة الجريمة عبر الوطنية وما يرتبط بذلك من تعاون دولي في المسائل الجنائية، وإذا كان ما جرى من تهريب، يبقى حاملا لبصمات الإجرام وثقافة قطاع الطرق، من جانب أعداء الوطن ودعاة التفرقة والتشرذم والشتات في الداخل الجزائري كما في مخيمات البؤس والعار، فهو في ذات الآن، محاولة غبية، تسائل بدرجة أولى الجارة الشمالية إسبانيا، التي أدخلها “محمد بن بطوش” ومن يقف وراءه من الكبرانات، في صلب فضيحة قانونية وقضائية وأخلاقية وحقوقية، لأنها استقبلت شخصا ملاحقا من طرف القضاء الإسباني اعتبارا لسجله الإجرامي الأسود.
إسبانيا أساءت لقضائها وضربت مبدأ استقلاليته، وانتصرت للجلاد “محمد بن بطوش” أو “إبراهيم غالي”، دون اعتبار لحقوق ضحاياه، وادعاؤها أن الاستقبال كان لدواعي صحية وإنسانية، لايعفيها من تحمل مسؤولياتها القانونية والقضائية والسياسية والحقوقية والأخلاقية، كما لايعفيها من تحمل مسؤولياتها في تعميق بؤرة الخلاف مع الرباط، بكل ما لذلك من كبح لجماح أية فرصة للتقارب والانخراط الثنائي في رسم خارطة طريق جديدة للتعاون المشترك والصداقة وحسن الجوار، استحضارا للمتغيرات التي شهدتها وتشهدها قضية الوحدة الترابية للمملكة.
وبدون شك، فإن فتح إسبانيا لأبوابها في وجه “محمد بن بطوش”، جاء بناء على ترتيبات مسبقة وفي جو من السرية والكتمان، وما يزكي هذا الطرح هو رفض ألمانيا – حسب الأخبار المتداولة – استقبال واستضافة المعني بالأمر على أراضيها، ويبدو أنها استفادت من الدرس المغربي ولم تعد قادرة مرة أخرى على الدخول في أي توتر مع الرباط، مقتنعة بذلك بالمتغيرات التي شهدتها وتشهدها قضية الوحدة الترابية عقب الاعتراف الأمريكي وفي ظل النجاحات المتواصلة لدبلوماسية القنصليات، أما إسبانيا، فيبدو أنها انزلقت وراء الطرح الآخر بشكل واضح لايحتاج إلى تفسير أو تأويل ووسعت بذلك هوة الخلاف بينها وبين المغرب، وهو ما عبر عنه البلاغ الصادر عن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، الذي تم التأكيد من خلاله على أسف المملكة المغربية وخيبة أملها من الموقف الإسباني “الذي يتنافى مع روح الشراكة وحسن الجوار، والذي يهم قضية أساسية للشعب المغربي ولقواه الحيــة”، وعن الاستغراب لإدخال المدعو “محمد بن بطوش” أو ”إبراهيم غالي” إلى إسبانيا خفية وبجواز سفر مزور وهوية مزورة، وعدم إخطار المغرب بالأمر، وعدم تجاوب القضاء الإسباني – بعد – مع الشكاوى العديدة المقدمة من قبل الضحايا، وهي ملاحظات مشروعة، كانت كافية “لاستدعاء السفير الإسباني بالرباط إلى وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج لإبلاغه بهذا الموقف وطلب التفسيرات اللازمة بشأن موقف حكومته” حسب ما ورد في ذات البـلاغ.
ما هو باد للعيان، أن إسبانيا لازالت تنظر بعين من التوجس والقلق، لما حققه المغرب من انتصارات ومكاسب عقب واقعة الكركرات وما تلاها من اعتراف أمريكي ومن تعزيز للعلاقات الاستراتيجية بين الرباط وواشنطن، ومن إقبال واسع على دبلوماسية القنصليات ومن اقتناع عربي وإفريقي ودولي بنجاعة مقترح الحكم الذاتي كحل وحيد وأوحد لطي النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، فمن جهة ترفع يافطة حسن الجوار والشراكة بين الرباط ومدريد، وفي ذات الآن لها عين ثانية نحو الجارة الشرقية، بشكل يجعلها ليس فقط، تلعب على الحبلين وتعزف على الوثرين في نفس الآن، بل وتتموقع بشكل معلن في خندق دعاة التشرذم والتفرقة والانفصال، كما حدث مع “محمد بن بطوش” أو “إبراهيم غالي” الذي تم استقباله في تحدي واضح لسلطة القضاء والقانون وحقوق الإنسان ودون أي اعتبار لمشاعر المغاربة، وهو استقبال ما كان أن تنكشف عورته، لولا المخابرات المغربية التي أبانت مرة أخرى على قوتها وحنكتها وعلو كعبها.
في جميع الحالات، يتأكد يوما بعد يوم، أننا أمام جارة شرقية وتحديدا أمام جار شرقي بات فاقدا للبوصلة أكثر من أي وقت مضى، ماض بقصد أو بدونه نحو حافة الإفلاس والهلاك، مصرا بشكل عصي على الفهم والإدراك على الوفاء لعقيدة العداء للمغرب ولوحدته الترابية، دون أن يستحضر تكلفة هذا العناد على الداخل الجزائري وعلى أمن واستقرار المنطقة وعلى الحلم المغاربي، فمن يزور جواز سفر بكل ما له من حمولات رمزية مرتبطة بالسيادة، ومن يهرب شخصا ملاحقا قضائيا لتورطه في جرائم ذات صلة بالإبادة الجماعية والقتل والتعذيب والاختطاف والعنف والاغتصاب… باستعمال هوية كاذبة، من يلجأ إلى أعمال اللصوصية وقطاع الطرق، ومن يعبث برمزية وسيادة دولته، ومن يصر على رعاية الانفصال واحتضان التشرذم ونشر الدسائس والقلاقل، ومن يصر على صد أبواب الأمل في مستقبل آمن تتحقق معه أهداف التنمية ومقاصد الرخاء، لايمكن إلا الاحتراز منه والتحلي بما يكفي من ضبط النفس لكبح جماح ما يصدر أو قد يصدر عنه من ممارسات غارقة في الحماقة والغباء.
في هذا الصدد، فقد أطلقت قبل أيام مبادرة حملت اسم “نداء المستقبل” وقعها مغاربة وجزائريون، وحدهم مطلب فتح الحدود بين البلدين لدواعي اجتماعية وإنسانية، ومن باب المبدأ لايمكن إلا أن نكون مرحبين بمبادرة راقية من هذا القبيل يحضر فيها عين العقل وصوت الحكمة، كما تحضر فيها رؤية متبصرة للمستقبل، تراعي الأخوة وحسن الجوار والتعاون والسلام والعيش المشترك بين الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري، في واقع إقليمي ودولي لا يؤمن إلا بلغة الوحدة والتكتل والتعاون لما فيه مصلحة وخير للشعوب، لكن، وفي ظل واقعة “محمد بن بطوش” وفي ظل الإصرار على نهج عقيدة العداء للمغرب، لايمكن إلا أن نطالب بأن تظل أبواب الحدود موصدة إلى أجل غير مسمى بكل ما لذلك من آثار إنسانية واجتماعية، في انتظار رحيل من وحدهم حب العداء للمغرب ولوحدته الترابية.
أما الجارة الشمالية، فيبدو أنها لم تستوعب بعد متغيرات القضية الوطنية، ولم تلتقط الموقف الواضح الذي عبرت عنه الرباط قبل أيام احتجاجا على المواقف الألمانية المعادية للوحدة الترابية للمملكة، بل لم تفهم أن المغرب قطع بشكل لارجعة فيه مع “دبلوماسية ازدواجية المواقف” وما يرتبط بها من مناورات وابتزاز خفي ومعلن، وبجنوحها نحو معسكر العداء والتشرذم والانفصال، تكون قد تورطت أو ورطت نفسها في فضيحة قضائية وقانونية وحقوقية وأخلاقية بامتياز، وهي ملزمة بتصحيح المسار لحفظ ماء الوجه لأنها وقعت في المحظور، والإفصاح ليس فقط عن مواقفها الحقيقية حيال القضية الوطنية، بل والانخراط اللامشروط في دبلوماسية القنصليات، والاقتناع أن الرهان على المغرب، هو رهان على الأمن والاستقرار والتعاون المشترك، ورهان على الصداقة والسلام والتنمية وحسن الجوار، وإن لم تفعل أو تبادر بدون قيد أو شرط، فلابد لها أن تتحمل ضريبة استقبال “بن بطوش”، وتتحمل أيضا، تكلفة الرهان على العابثين والفاشلين والحاقدين والتائهين … وفي جميع الحالات، فالمغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، مهما دقت أجراس العداء …وقضية الوحدة الترابية هي قضية وطن وقضية أمة مغربية …مهما علا صوت الحقد والتفرقة والشتات …
تعليقات
0