بقلم : سليمان الصوصي العلوي
نحن الشعب الذي لا يعرف رخاء، فعادتنا أن نئن لكل وضع ونشتكي من كل تغيير، أحوالنا لا تقوى على مسايرة شيء، فكل قرار أو تدبير تنتهجه حكومة إلا ووجدناه ينهكنا، فمعظلتنا أننا فقراء أكثر مما يجب، وعاجزون عن مجاراة واقع كبلتنا شروطه. هكذا نحن أمام السياسات الامبريالية اللاشعبية التي استقوت علينا ورفعت من وتيرة استغلالنا كأننا الوقود الذي يعوض غلاء وشح وقود البلدان المتنازعة. وضعونا أمام سوق حر مفتوح لا يعرف إلا الربح شعارا له، والربح يقتضي دفع الإنسان إلى الاستهلاك حتى إن لم يكن قادرا على ذلك. وهو الأمر الذي أضحى واقعا اليوم، فقد أصبحنا أمام مستويات قياسية من التبضع والاستهلاك التي لا يوازيها مستوانا المادي، فترتبت عن ذلك أزمات لا حصر لها. أهمها أن دائرة الفقراء اتسعت لتشمل حتى تلك الفئات التي لم تكن تنتمي إليها. ولا يفسر ذلك بشح مداخيل هذه الفئات الجديدة، وإنما باحتوائها وضمها إلى نسق استهلاك لا تقوى على مجاراته. فحياة إجتماعية عادية وبسيطة كانت تقتضي في الماضي القريب مأكلا ومأوا بسيطا، وغدت تحتاج اليوم إلى سفر ولباس مركات وخدمات ونفقات تمدرس وتطبيب وبرستيج…الخ. مصاريف إضافية ترتفع بسرعة تضاعف بمرات مستوى دخل الفرد. هي إذن أزمة اللاتوازن والتي جعلت الفقر يجتم على فئات عريضة ويحدث أزمات نفسية واجتماعية جديدة.
وأصبحت فئات عريضة من المجتمع اليوم( عمال، فلاحون صغار، موظفون..) هي موضوع الفقر المستحدث، وتجاوزها لمعضلة هذا الفقر يقتضي خلق نوع من التوازن بين حاجياتها ومداخيلها، أي الرفع من مدخولها المادي ليوازي ما تستهلكه، لأن العكس يصعب أن يحدث، أي تخفيض مستويات استهلاكها بعدما وضعت في نسق سوسيواقتصادي لا يمكن العيش خارجه. ولكن هذه المعادلة العادلة عصية عن التحقق لأن سلطة رجال المال الذين انتجوا هذا الوضع لن يسمحوا بأي تغيير يمس بمصالحهم التي تتحقق بإفراط عندما يشتد خلل التوازن في تدبير الفقراء لفقرهم.
المسألة لا تتعلق، إذن، بخيارات سوسيواقتصادية للأفراد، وإنما بقَهْرِيَّةِ نمط إققتصادي رأسمالي عرفه العالم منذ عقود استقوى بتجدره في طباعنا وأنشطة حياتنا، فكان بذلك الفقر هو مآلنا وعلتنا، فلم نعد نحسن العيش خارج التقديرات والظروف المادية- النقدية.
والواضح أن النظم الأخرى لم تعد قادرة على كبح جماح المحدد الإقتصادي المادي. فالمحددات الأخلاقية والدينية والرمزية مشروطة هي نفسها بنظم المال والاقتصاد، أو لنقل أنها تتحول وتتغير، ينقص مفعولها أو يزداد، تتمدد وتتقلص، طبقا لما ينتجه العامل المادي- الإقتصادي من واقع.
ومعلوم أن فقراء الأمس لم يكن فقرهم مرتبطا بالتحولات التي تعرفها الأسواق التي تحتوي منتوجات غير منعنيين بها في أصله، إذ معيشهم يقوم على الحاجيات الأساسية التي تخصهم لوحدهم كفئة. أما اليوم فأخطبوط الاقتصاد العالمي استدرجهم بوسائله الأيديولوجية والدعائية إلى ما يشبه ساحة حرب لا يحملون ما يناسبها من سلاح الذي هو المال الوفير. لذلك تجد فقير اليوم يلعن عجزه دون أن يلعن الوضع الذي جعله كذلك، فهو لا يقوى عصيان نظام وُجِدَ فيه وحاز رضاه. كالعبد الذي يعتبر كل من يثور على سيده عدوا، بل قد يخاصمك إذا أنت حاولت تخليص العبيد من سيادة سيدهم. رضا متبادل بين طرف مستغِل وطرف مستغَل.
وفي النتيجة، يحضر الرأسمالي المنتج والفقير المستهلِك كطرفين متشبثين ببعضهما البعض، فالأول حاجته إلى من يستهلك منتوجاته ويزيد من ماله ورقم معاملاته، والثاني حاجته إلى من يزوده بمواد وخدمات يرغب فيها ويستهلكها ولا يستطيع ممارسة نمطه المعيشي دونها.
تعليقات
0