رحال لحسيني
/التنسيق النقابي وأفق المعركة النضالية لنساء ورجال الصحة/
في سياق المتغيرات التي يعشها قطاع الصحة والحماية الاجتماعية، وخصوصا المتعلقة بموارده البشرية، والتي بدأت تثير المخاوف بشكل مسترسل في صفوف عموم العاملين فيه (ولا زالت) بادرت فروع نقابية على مستوى بعض المناطق والجهات -على قلتها- للتداول في شأن مشاريع النصوص المؤطرة للوضع الإداري والمهني الجديد لنساء ورجال الصحة واتخاذ مواقف محذرة منها أثناء الإعداد لإصدارها أو الاحتجاج عليها من منطلق عدم وضوحها في ظل تناسل الأخبار والمعطيات المثيرة للمخاوف من مضامينها، آنذاك.
كما أطلقت مجموعات مهنية من موظفي القطاع، فئوية أو مطلبية خاصة أو عامة احتجاجات مركزية وجهوية وإقليمية جديدة خارج النقابات الصحية التي كانت لازالت منهمكة في الحوار القطاعي “الماراتوني”.
حتى وإن جاءت هذه المبادرات النضالية أقل قوة وتأثير من “احتجاجات غير نقابية” مماثلة كانت متواصلة خلال نفس الفترة في قطاعات أخرى، وخاصة بقطاع التربية الوطنية. تمكنت هذه الأخيرة من خلق صدى بارزا لها في المشهد الاجتماعي والنقابي الوطني، وساهمت في تغيير الموازين لفائدة العاملين في هذا القطاع الاجتماعي الكبير.
وأسفرت عن البث في كافة الملفات الاستعجالية المطلبية والوظيفية داخل قطاع التعليم وعلى رأسها ملف الأساتذة الذين فرض عليه التعاقد، بالاتفاق على دمجهم وتمتيعهم بحقوقهم الوظيفية على غرار باقي زملائهم الأساتذة والأستاذات. وتعطيل العمل بالنظام الأساسي الجديد لموظفي القطاع المثير للجدل، رغم اكتمال مراحل مسطرة المصادقة القانونية عليه.
وفي مقابل ذلك، تم إخراج موظفي القطاع العمومي للصحة من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية دون ضمانات موثوق فيها ولا تحفيزات مادية تناسب ذلك على الأقل.
ولا يمكن -بالمناسبة- تجاهل التضحيات الجسيمة المادية والاجتماعية التي قدمها عموم نساء ورجال التعليم في معركتهم النضالية الأخيرة، وتأكيد التضامن المطلق مع الأساتذة والأستاذات الذين طالتهم قرارات توقيف تعسفي عن العمل.
(بعضهم لازال ينتظر تسوية وضعيته إلى الآن).
إلا أن الاحتجاجات الحديثة “خارج النقابات الصحبة” وخاصة المخصصة للتصدي للوضع القانوني الجديد للقطاع والعاملين فيه وللحفاظ على مكتسباتهم واستقرارهم الوظيفي لم تتح لها -للأسف- إمكانية الوصول إلى نفس قوة تأثير “شبيهاتها” بقطاع التعليم (مثلا). وذلك رغم اعتمادها نفس التسمية (التنسيقيات) حتى تكون ربما دافعا إضافيا لتحقيق مطالب العاملين في القطاع وحماية مكتسباتهم.
بل إن ظهورها (الأول) كاد أن يكون مؤثرا، إلا أنها لم تتجاوز عمليا درجة المساهمة من جانبها في إثارة الانتباه للمخاطر التي تهدد الوضع القانوني والاجتماعي لنساء ورجال الصحة. وهو شيء لا بأس به على كل حال.
فغالبا “لا يمكن السباحة في نفس النهر مرتين”. فلا يكفي الإعلان عن “حركات احتجاجية” في قطاع ما تحت نفس التسمية (تنسيقيات) لتكون لها نفس القوة وتحقق نفس النتائج.
إذ عرفت الفترة ذاتها إحداث عدة “تنسيقيات” في العديد من القطاعات للدفاع على مكتسبات مهنية أو اجتماعية أو مطالب تخص موظفي او مستخدمي تلك القطاعات لكنها لم تحقق أهدافها أو على الأقل الجزء الأساسي منها.. وتلاشت.
علما أن “التنسيقيات” لم تكن وليدة اليوم في قطاع الصحة، بغض النظر عن تنوع التسميات التي حملتها أو لازالت تحملها (تنسيقية، حركة، اتحاد…) للترافع عن قضايا أو ملفات محددة أو مطالب خاصة أو فئوية أو جزء منها. كما أن “ظاهرة التنسيقيات” في قطاع التعليم لم تكن بدورها وليدة اليوم، غير أنها لم تحقق ما حققته (مجتمعة) من ضغط وتأثير في مسار المعركة النضالية للعاملين في القطاع، بنفس الحجم إلا لماما.
كما لا يمكن تجاهل “تنسيقيات” (أو توجهات فئوية) داخل قطاع الصحة استطاعت أن تحدث تأثيرا جيدا وأن تكون فعالة في حل بعض الملفات. خصوصا في فترات تمتعت فيها هذه “التنسيقيات” (والمطالب تحديدا) بدعم أغلب المكونات الاجتماعية للقطاع الصحي تنظيميا أو جماهيريا (من خلال مناضلات ومناضلي النقابات) أيضا.
وذلك بغض النظر عن أراء تخترق معظم التوجهات النقابية -حتى وإن كانت صائبة أحيانا- إلا أنها لم تقدم البديل العملي والتنظيمي المناسب لتحقيق بعض أو كل المطالب الخاصة (غالبا ملفات مستعجلة) وإنصاف المتضررات والمتضررين تحت اليافطة التنظيمية الدستورية فقط.
هذا دون تجاهل استمرار خيار دعم النضالات الفئوية وتبني المطالب الخاصة بالفئات من منطلق وحدوي في نفس الآن.
وبعض النظر على أنه لا يمكن دوما اعتماد نفس الأساليب والوسائل لتحقيق نفس الأهداف او أهداف مشابهة.
فإن “المساهمة الكبرى” لبعض “التنسيقيات” الحديثة داخل قطاع الصحة تمثلت في أخذ موظفين إضافيين لمسافة أبعد عن الفعل النقابي داخل القطاع، والذي أصبح بالنسبة لبعض الفاعلين فيها عدوا رئيسيا، فسقط من حيث لا يدري (أو يدري) في خدمة الجهة الواجب مواجهتها.
وربما يرجع ذلك للخلط المتفشي (غالبا) بين دور ومهام العمل النقابي وبعض الممارسات المحيطة به فأضحى الهاجس الأساسي لبعض مكونات هذه “التشكيلات العفوية” لا يتجاوز حدود مهاجمة النقابات.
كما أنها تعرضت بدورها لمحاولات العزل من طرف بعض المكونات المتواجدة في القطاع (حتى وإن لم تقم جميعها بذلك) وسعي بعض ممثليها لتحييد مناضلات ومناضلي تنظيماتهم عن المشاركة في دينامية “التنسيقيات” (أو الحركات) الصحية، بمنطق السعي لسحب (أو عدم سحب) البساط من تحت أقدام بعضها البعض، حسب موقع التواجد في الساحة الاجتماعية.
ولم يخبو هذا المشهد الضبابي عمليا، والذي عرفته قطاعات أخرى أيضا ولو بأشكال مغايرة، إلا فترة قليلة قبل مبادرة التنسيق النقابي في قطاع الصحة.
بعد سنوات من النضال النقابي الخاص بكل نقابة على حدة (حسب عمر تواجد كل نقابة) والنضال المشترك بين بعضها البعض.
وبعد الانخراط الجماعي للنقابات الصحية في جولات الحوار القطاعي لفترة طويلة، واتخاذ كل نقابة منها أو مع نقابات أخرى -بعد ذلك- لخطوات نضالية رمزية أو ميدانية في أعقاب تعاملها مع مسارات ونتائج ومصير الحوار ونضالاتها.
وبعد محاولات متتالية للتنسيق التي ظلت تتعثر لعدة اعتبارات، سواء لأسباب موضوعية راجعة لتباين التقديرات والأولويات، أو ذاتية مرتبطة بمنطق التنافس والذي أفرز صراعات جانبية كبيرة أنتجت جميعها واقع الحفاظ على التفرقة في النتيجة، مهما تعددت الأسباب. فتفشت الاتهامات والاتهامات المضادة داخل الجسم النقابي الصحي.
(تم استبعاد تناول تفاصيل هذا الوضع المؤسف في هذه القراءة الأولية لأن المطلوب حاليا هو تجاوزه وليس النبش فيه.. وبالتالي الارتهان لتبعات ذلك!).
بعد وصول كل المكونات النقابية الممثلة في القطاع لقناعة مشتركة مضمونها ضرورة توحيد الجهود للدفاع على حقوق ومكتسبات نساء ورجال الصحة جماعيا والنضال المشترك من أجل تحقيق ذلك؛
تم التقارب بين النقابات الصحية الثمانية (انتفاء شرط الأكثر تمثيلية داخل القطاع) وعقد اجتماع الكتاب الوطنيون يوم الجمعة 19 أبريل 2024 بالرباط، والذي دشن لمرحلة التنسيق النقابي الحالي، والإعلان عن انطلاقتها في بلاغه الأول تحت عنوان:
“بيان التنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة
كل النقابات تقرر توحيد جهودها لفرض تلبية مطالب الشغيلة الصحية بكل فئاتها”
هذا “البلاغ” التاريخي الهام ثمن الخطوة النضالية الوحدوية ووصفها “بالشجاعة والجريئة وغير المسبوقة بقطاع الصحة”، وتم التأكيد خلاله على نقطتين مهمتين وجوهريتين؛ وهما:
- ضرورة تفاعل الحكومة مع انتظارات الشغيلة الصحية بكل فئاته واستجابتها لمطالبها المشروعة، بداية بتنفيذ جميع مضامين الاتفاقات الموقعة مع النقابات.
- ضرورة الحفاظ على كل حقوق ومكتسبات مهني الصحة وعلى رأسها صفة الموظف العمومي وكل الضمانات المكفولة في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
مع الإعلان عن برنامج نضالي تصعيدي يبدأ بخوض إضراب عام وطني في القطاع يومي الأربعاء والخميس 24 و 25 أبريل 2024 وتنظيم ندوة صحفية لاحقا.
وقد تم تنفيذ هذا الإضراب المميز بحماس منقطع النظير. وكان من الممكن أن يشكل بداية حقيقية لضغط فوي ونوعي للعاملين في القطاع يفضي للاستجابة العاجلة لمطالبهم العادلة الملحة.
ثم أتت بعده إضرابات ونضالات أخرى أبرزها الوقفة الاحتجاجية الحاشدة والناجحة أمام البرلمان يوم الخميس 23 ماي 2024، لكن ذلك لم يفض إلى حدود الآن لتحقيق المطالب المشروعة لموظفي وزارة الصحة، وفي مقدمتها تنفيذ الاتفاق والمحاضر الموقعة، وذلك رغم التضحيات والمجهودات المبذولة والتي وضعت “الملف المطلبي لمهنيي القطاع” (والذي يحتاج الى توضيح أكثر) في مستوى حضوري جيد في المشهد العام الوطني.
إلى أن قدرته (البرنامج النضالي) على تحقيق مطالبه لازالت متعثرة لعدة أسباب. منها، اعتبارات موضوعية تمت الإشارة لبعضها في الجزء السابق من هذا الموضوع/ “المقال”، (تحت عنوان: ملابسات الحوار المركزي وتداخل المعطيات).
والتي يمكن تلخيصها (على المستوى الأول) في:
- “عدم المساواة بين موظفي الدولة الذي تنهجه الحكومة المغربية في تعاطيها مع ملف موظفي قطاع الصحة”.
- “ما يتم الترويج له عن وجود تجاذبات معينة في الكواليس حول حقيبة وزارة الصحة” للظفر بها من طرف أحد أحزاب الأغلبية أو حزب رئيس الحكومة,
هذا المعطى الذي قد يتطلب وجود “بلوكاج” حقيقي داخل هذا القطاع الحيوي والانساني للوصول للهدف المنشود، ناهيك عن: - “عدم قدرة وزارة الصحة والحماية الاجتماعية على الدفاع عن مصالح موظفيها (..) وتركهم يواجهون مصيرهم المحاط بالكثير من الغموض” في كل الأحوال.
الأمر الذي أسفر عن وضع موظفي الصحة “بين مطرقة الوزارة وسندان الحكومة حاليا”.
أما على المستوى الذاتي؛ فيمكن رصد بعض تجليات هذه التعثرات في:
- دخول معركة موظفي قطاع الصحة مركزيا بشكل أو آخر في نوع من النمطية، ناهيك عن عدم استنفاذها للزمن الضروري لكل جزء منها، جراء الإعلان السريع عن أشكال احتجاجية متتالية ودفعة واحدة، وإن كان الهدف من ذلك هو التصعيد.
- الضبابية التي أحاطت بالمطالب التي يتم النضال من أجل تحقيقها، وعدم المطالبة بالاستفادة الواضحة من الحوار الاجتماعي المركزي وتنفيذ اتفاقات الحوار القطاعي في نفس الأن.
- عدم توضيح مخاطر قضية النقل التلقائي الذي سيطال أغلب موظفي قطاع الصحة وإخراجهم من النظام الأساسي العام الوظيفة العمومية، والتعبير عن التوجس من ما سمي بالضمانات الممنوحة لهم، حتى يكون للمطالب المرتبطة بها ماديا واعتباريا وضعها المناسب.
- انغلاق التنسيق النقابي وعدم عقده لاجتماعات موسعة ومشتركة للأجهزة الوطنية لمكوناته -على الأقل- للمساهمة في تكثيف التعبئة وتطوير تصور التنسيق وأفاق المعركة النضالية التي يقودها التنسيق النقابي.
- توجيه سهام الاحتجاج نحو الحكومة فقط وعدم انتقاد وزارة الصحة، ولو من باب أنها لم تقم بتوجيه أية دعوة رسمية للحوار أو للتوضيح، ناهيك عن قيامها بشكل ملتبس بمحاولات تنفيذ نقط من المحاضر الموقعة مع النقابات من جانب واحد لا تأخذ فيها بعين الاعتبار التفاصيل الموقع عليها (وتنوعها) وما ينتج عن ذلك من بلبلة وسط معظم الأطر الصحية.
وكذلك لتفادي تصنيف معركة نساء ورجال الصحة مع طرف ضد طرف آخر.
بالإضافة إلى معطيات أخرى، نعتقد أن المجال غير مناسب لتناولها الآن.
وعلى الرغم من ذلك، نرى أن التنسيق الوطني للنقابات الصحية لازال يستحق تقوية الصفوف والمساندة والدعم والانخراط في برامجه والتي يجب ملائمتها مع إمكانيات الموظفين وطبيعة وظروف العمل والقطاع والحرص على تحيينه باستمرار عبر فتح إمكانيات وقنوات نضالية أخرى والتوجه نحو أشكال إضافية أو جديدة بدل الاستمرار في نفس الأشكال، وإن كانت ذات طابع تصعيدي، ولا يمكن التقليل من أهميتها مع ضرورة مراجعتها لتطويرها في أقرب الآجال.
……… يتبع ……..
الجزء الرابع: تجاهل الحكومة ووزارة الصحة وحاجيات وانتظارات الموظفين والمواطنين
الجزء الخامس: العوائق الموضوعية والذاتية وسبل تجاوز الأزمة وتحقيق المطالب
الجزء الأول: في الحاجة للحفاظ على المكتسبات وتحقيق المطالب وتحسين الأوضاع
الجزء الثاني: ملابسات الحوار المركزي وتداخل المعطيات
تعليقات
0