عبد الله بوصوف…
إن قـراءة كـل الـخطب التـاريخية للعديـد من القادة و السياسيين العالميين ، تحمل في طياتها متعة فكرية و معرفية من جهة ، و سفـر تـاريخي بتفاصيل واضحة و أخرى بيـن السطور من جهة ثانيـة ، مما يضيف الى تلك الخُطب الملكية صفات السفر التاريخي و الذاكرة الوطنية ..
و من خلال قــراءتنا للعديـد من الخطابات الملكية و خاصة لجلالة الملك محمد السادس، فإننا كنا نقــوم بسفـر تـاريخي ، انتقلنـا من خلالها بين لحظات تاريخية و محطات لأحـداث وطنيــة و قــارية و عالـمية و دينيــة و اجتماعيــة و ..و…
استعـدنـا مشاعـرنــا وقـت إلــقاء تـلك الخطب الملكية ، كما استعدنــا تجاوب المغاربة بما فيهم مغاربة العالــم لكل حــرف و لكل كـلمة في الخطابات الملكية لما تحمله من معاني الصدق و الــوفاء و الـــولاء…
و طــوال قـراءتــنا لتلك العـينة من الخطابات الــملكية ، عــشنا لحظات مفصلية في العهــد الجديــد و ما حملــه من تــدرج لــثورات هــادئة قــادهــا الملك محمد السادس ســواء بصفتــه رئيس الــدولــة المغربية ( الفصل 41 من الدستور ) أو بصفته أميرا للمؤمنين ( الفصل 42 من الدستور ) في كل الميادين الاجتماعية و السياسية و الحقوقية و الاقتصادية و الـثقافية و الـبيئيـة… و بتبني اوراشا وطنية كبرى كالجهوية المتقدمة او تعديل الوثيقة الدستورية في 2011 او مبادرة الحكم الذاتي للأقاليـــم الصحراوية الجنوبية في ابريل 2007 او مسلسل المصالحة و الانصاف….
كما عــشنـا لحظات قــوية تضمنت الإعــلان عن ميلاد مؤسسات جديدة في كل المجالات الحقوقية و الحكامة الجيدة و التنمية البشرية و المؤسسات الاستشارية…
عشنــا كذلك من خــلال تـلك الــقراءات للخُطب الملكية كــل تفاصيل ” الـثورات الهادئة ” لجلالــة الملك محمد السادس نصره الله ، رغم كل الاكراهات و العراقيل و الصعاب..
كما خالجـنا إحساس رهيب بعظمة لحظة دخول جلالـة الملك الى قصر المؤتمرات بـأديس أبـابــا عاصمة اثيوبـيــا في ينــاير 2017 ، مُـعلـنـا عن عــودة المغرب للبيـت الافــريقي بعد غياب طويــل ، احسسنا بفخــر الانتماء للمغرب و بكـاريزمـا و عبقريـة مـلك المغرب الــذي صفق لحضوره كل الــقادة الأفارقـة بشكل حار و طويل ، حرارة الاستقبال أطفئتها دمــوع الملك و كلماته الصادقة…..
كما قــادنــا هــذا السفر من جهة أخرى ، الى إعــادة قــراءة شريــط صور جلالة الملك محمد السادس أثنــاء لقاءاتــه المباشرة مع شعبـه العزيــز عبــر الخُطب الملكيـة ، و منذ أول لقــاءه المباشر مع الشعب بعد وفــاة والــده المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثــراه ، في خطاب العرش يوليوز 1999 وبجانبه أخــوه صاحب السمو الملكي المولى رشيــد…
شــريط الصور سيُـذكرنــا بــأول حضور لـولي العهد الملكي الأمير المولى الحسن ، ثــم سنعيش مع شريــط صــور الخطابات الملكية مراحل نمــو ولي العهــد المولى الحسن و بدلاتــه الشبيهـة ببـدلات جلالــة الملك محمد السادس….
مــرورا بالعـديــد من الـصور لخطابات تنــوع فيها لبــاس جلالة الملك بين الـبدلـة الرسمية بمناسبة الخطب الــوطنية ، و بين اللباس الـتقليدي المغربي بمناسبة افتتاح الدروات التشريعية بالبرلمان و المناسبات الدينيــة….
و سيحملنا معه هذا السفر ( الخطب الملكية ) الى أماكــن و فضاءات إلـقـاء تلك الخطب الملكية بيــن الرباط العاصمة و الدارالبيضاء و مـراكش و ورزازات و مكناس و وجدة و فاس و تطوان و العيون و طنجة و الحسيمة…. وهي أماكــن لهــا دلالات خاصة و رسائــل سيـاسية و وطنيــة و قاريـة و دوليــة مهمة ، خاصة خطاب ذكــرى المسيرة الخضراء من العيون لسنة 2015 و خطاب المسيرة من العاصمة السينغالية داكــار في نوفمبر 2016.. مما يُـمكنا معه الــقول بأنــه سفــر آخــر في ذاكــرة المكــان…وان الخطب التاريخية هي ذات قـيمة إنسانيـة و ذاكــرة جماعيـة كـونيــة…
وهــو ما يجعل منها مصدر فخر لشعوبهـا و لــقادتها ، لأنها تــؤرخ لصور حياتية و تـاريخية و تــؤرخ لمراحل تطور بناءهــا الديمقراطي و التنموي ، كما تؤرخ للحظات انتصار او انكسار أو للحظات نضال وطني ، كما تــؤرخ أيضا للحظات تواصل بين القــادة و الشعوب….
ومن هــذا المنطلق ، فـإن كل الخطب الملكية سواء تلك للمغفور له محمد الخامس او المغفور له الحسن الثاني رحمهما الله من جهة ، و خطب جلالة الملك محمد السادس من جهة ثانية ، يُـمكن اعتبارها ذاكــرة وطنية تُــوجب الحفــاظ عليها و التشجيع على قــراءتها و تحليـل مضامينها…. و استحضارها عند كل تحليـل معرفي أو تاريخي.. يهُـم إحدى المحطات التاريخية المغربية ، وكــذا استحضارها و الاستشهاد بمضامينها عند كل قــراءة أكاديمية لها علاقة بالعلوم الإنسانية و الاجتماعية و القانونية.. وغير ذلك ، فهي بهـذا المعنى مـلك لكل المغاربـة و مكـون أساسي للـذاكرة الجماعية المغربية…
من جهة أخرى ، فعملية إعادة قـراءة الخطب الملكية تجعلنا أمام هنـدسة متعـددة الأركان ومنسجمة الغرض و الأهــداف ، وهي هندسة تتطلب قراءات متعددة منها أولا, الطبيعة القانونية للخطب الملكية مثلا…و التي لا يُـمكن القيام بها دون استحضار خصوصيات المؤسسة الملكية المغربية من حيث ان ملك البلاد هـــو رئيس الــدولة المغربية و أيضا أمير المؤمنين حسب التاريخ و التقالـيد و الأعراف السياسية و بنص كل الدساتير المغربية ، خاصة في الفصلين 41 و 42 من دستور 2011 .
و ثانيـــا ” الخصوصية الــدينية ” للخطب الملكية أو النفحة الدينية في الخطب الملكية … خاصة و أن قــائلها هــو أمير المؤمنين / الملك و كل ما تعنيــه مــؤسسة ” إمارة المؤمنيــن ” من حمولــة دينيــة و رمزيــة و روحيـة….وهو الشيء الدي يجعل من كل تلك الآيات القرآنية و الاحاديث النبوية التي تتضمنها كل الخطب و الرسائل المليكة…جُــزءا لا يتجـزأ من الخطب و الرسائل الملكية نفسها ، فمن جهة أولى تضخ فيها جرعة دينيــة قــوية ، و من جهة ثانية تساعدنــا نحــن على فهــم أعمـق لكل معاني الخطاب الملكي و مختلف رسائله و دلالاتـه…..
فالمسؤولية العظمى و الأمانة العظمى وغيرها من المصطلحات القوية المعنى و الكبيرة الإمتـداد ، تـرددت في اكثر من خطاب ملكي وحملت معاني عميقة و إحساس كبيرة بالمسؤولية لــدى جلالة الملك محمد السادس في تسييره لـدفـة الحكم و خدمة المغرب و المغاربة ، انطلاقا من تراكمات التاريخ و التقاليـد و الأعراف المغربية والممارسات السياسيـة و اختصاصاته الـدستورية سـواء بصفته رئيسا لــدولة حديثة أو أميرا للمؤمنين….
لـقـد ارتـأينــا الاكتفــاء بقراءات متأنـية لعينـة لبعض الخطابات الملكية من بين العشرات التي ألـقاها جلالـة الملك بمختلف المناسبات الدينية و الوطنية ، وكــذا العشرات من الرسائل الملكية بمناسبة المؤتمرات الوطنية أو القارية و المناظرات و اللقاءات و المؤتمرات الدوليـة….
وبكل تجــرد و مسؤولـية وبـعيد عن كل عناصر التـأثيــر العاطفي و الانتماء ، فــان إحساس جلالــة الملك محمد السادس بالمسؤولية العظمى و بالأمانة العظمى .. قــد وصلنا بالفعل في أكـثر من مــرة ، و في أكثــر من خطاب بصورة واضحة و سـلسة ، و لا يحتاج الأمـر الى كثير عنــاء أو لــذكــاء خارق لاكتشافهـما…
و هــو الإحساس الــذي قادنا الى اكتشاف ” شغــف ” صاحب الجلالة لخدمة شعبه العزيز و الـوفي ، و أحسننا أكثــر من مرة عبـر خطابــات قــوية ان الملك هـو بالإضافة الممثل الأعلى لسيادة الامة والساهــر على سيــادة الدستور و حسن سيــر المؤسسات و غير ذلك من الاختصاصات الدستورية ….فهــو أيضا المدافــع عن مصالح المواطن المغربي العادي الطامح الى عيش كريم أمــام المؤسسات الدستورية الأخرى…وهــو الموجه أيضا لكل استراتيجيات ادماج مغاربة العالــم في تسيير الشأن العام المغربي وتنمية البـلاد….وهــو الناقـد الـقوي و الموضوعي ، و المشخص الواقعي لكل الاختلالات و الصعوبات لكل البرامج التنموية و الاستراتيجية و في وجه كل المراتب الوظيفية رابطا المسؤولية بالمحاسبة…
” وبصفتنا الضامن لدولة القانون، والساهر على احترامه، وأول من يطبقه، فإننا لم نتردد يوما، في محاسبة كل من ثبت في حقه أي تقصير، في القيام بمسؤوليته المهنية أو الوطنية..”
شغــف خدمة المغرب نجــده في متابعة جلالته و حرصه على إشراك المواطنين في الشأن العام ، عبر دفعه الى تكثيف المشاركة المسؤولة و الفعالة في الانتخابات بكل مراتبها ، و عبر تشجيعه لمؤسسات الــوساطة سواء جمعيات مجتمع مدني و نقابات مهنية و أحزاب ومؤسسات الاعلام الى الرفع من درجة تأطير و تعبئة المواطنين من أجل بناء نموذج تنموي يحترم كرامة المواطن المغربي و يضمن تطور المجتمع المغربي و السلــم المجتمعي و البناء الديمقراطي….
الشغف و التماهي مع إنتظارات المغاربة و المغرب و مع تطلعاتهم المشروعة يسمو الى أمانــة عظمى و الى عُــروة وثقى و الى عهــد قطعه جلالة الملك على نفسه من اجل خدمة المغرب و المغاربة و تحقيق تطلعاتـه…
” إني أعتز بخدمتك حتى آخر رمق، لأنني تربيت على حب الوطن، وعلى خدمة أبنائه. وأعاهــدك الله، على مواصلة العمل الصادق ، وعلى التجاوب مع مطالبك ، ولتحقيق تطلعاتك…”
(من كتاب : الخطب الملكية بين رهانات القيادة و تحديات الإصلاح….)
تعليقات
0