متابعة: عبد الفتاح الفاقيد وسارة الأحمر
اعترافا بثراء وتنوع الرحلات الاستكشافية، واحتفاءً بمصطفى الأزموري (ستيبانيكو) أحد أهم الأعلام التي تركت بصمتها في الموروث الثقافي الإنساني، انعقدت بمدينة أزمور يومي الجمعة والسبت 2 و3 غشت 2024 بدار الصانع بأزمور، ندوة دولية بعنوان “مصطفى الأزموري: جسر ثقافي متوسطي وإرث إنساني”، استكمالا لندوة شهر فبراير المنصرم المنعقدة بجامعة مدينة نيويورك بأمريكا والموسومة بـ”الملهم مصطفى الأزموري، أول مستكشف إفريقي في أمريكا الشمالية”. وقد أشرفت على تنظيم هذه الندوة الجماعة الترابية لأزمور والجمعية الإقليمية للشؤون الثقافية، وبدعم من المكتب الشريف للفوسفاط وبتعاون مع وزارة الثقافة جهة الدار البيضاء- سطات والقنصلية العامة للمملكة المغربية بنيويورك وجامعة مدينة نيويورك ومختبر السرديات والخطابات الثقافية ومختبر الدراسات المغربية الأمريكية بكلية الآداب بنمسيك بالبيضاء وصالون مازغان للثقافة والفن بالجديدة.
يوم الجمعة، استهلت الجلسة الافتتاحية والتي نسق أشغالها عبد اللطيف البيدوري، بكلمة زكريا السملالي رئيس جماعة أزمور معبرا عن شكره لكل المساهمين في إنجاح الندوة، وللأساتذة الباحثين الذين سلطوا الضوء على جزء من تاريخ المدينة غير المدون، وأكد على أن تاريخ مصطفى الأزموري فخر لمدينة أزمور ولكافة المغاربة وإرث إنساني.
وألقى عبد القادر الجموسي، القنصل العام للمملكة بنيويورك، كلمة أشار فيها إلى أهمية هذه الندوة الأكاديمية وما تقدمه من أبحاث علمية، وحاجة المدونة المغربية لضبط المرجعية التاريخية لهذه الشخصية التي مازال يحيط بها الكثير من الغموض، وأكد على أن المثقف المغربي امتلك دورا طلائعيا في تناول هذه الشخصية من جوانبها التخييلية والرمزية والأكاديمية.
تلت هذه الكلمة، كلمة توفيق جعفري عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء ممثلة بالإشراف العلمي لمختبر السرديات والخطابات الثقافية ومختبر الدراسات المغربية الأمريكية ، أكد فيها على قيمة الندوة المتمثلة في تسليط الضوء على أهمية المعرفة في بناء تصور يُعنى بالذاكرة وبتطور العلوم، كما أشار إلى اهتمام مختبر السرديات والخطابات الثقافية ومختبر الدراسات المغربية الأمريكية بالبحث في الأبعاد التي تربط الحضارات المختلفة، حيث تشكل شخصية مصطفى الأزموري رمزا حقيقيا لهذا التفاعل الذي يمثل جسرا حقيقيا يربط بين ثلاث قارات؛ أمريكا، أفريقيا وأوربا. فهذا الانفتاح أسهم في تشكيل هوية مصطفى الأزموري باعتباره مترجما ووسيطا بين المغرب والعالم الجديد. وعبرت مديرة دار الصانع في كلمتها عن أهمية هذه التظاهرة المهمة في فضاء دار الصانع الذي يجسد إبداعات المنطقة ويمثل التراث والصناعة المغربية.
وقد شهدت افتتاحية الندوة تكريم شخصيتين لهما دور بارز في الثقافة والفن التشكيلي، هما سعيد عاهد وعبد الكريم الأزهر، واعتبر شعيب حليفي بأن سعيد عاهد من فئة الباحثين المجددين، الذين يمتلكون رؤية دقيقة في اختيار الكتب وترجمتها، ويعود له الفضل كذلك في أنه كان من السباقين للكتابة والتعريف بمصطفى الآزموري. أما الفنان والتشكيلي عبد الكريم الأزهر الابن البار لمدينة آزمور، والذي يستلهم من عوالمها وعناصرها مادته التشكيلية.
استهلت الجلسة العلمية الأولى بكلمة منسق أشغالها شعيب حليفي والذي أبرز فيها دور المعرفة في بناء التاريخ والذاكرة والهوية المغربية الممتدة على مساحة أكثر من خمسة عشر قرنا، وركز على أن دور الجامعة يتمثل في إعادة كتابة التاريخ وتجديده، كما اعتبر أن مصطفى الأزموري قدم عملا إنسانيا يعرف بصورة أفريقيا الحقيقية الممتدة في أوربا وأمريكا.
كانت أولى مداخلات الجلسة العلمية للكاتب والدبلوماسي عبد القادر الجموسي بورقة موسومة بعنوان “رحلة الأزموري الأمريكية: النص، السياق والأثر”، تطرق فيها إلى تقرير “رأس البقرة” المُترجم الذي حظي بجائزة الترجمة في أدب الرحلة، وأشار إلى أن الروائي المغربي كان له السبق في التعريف بشخصية مصطفى الأزموري، هذه الشخصية التي كان لها دور مهم في التفاعل مع الحضارات نظرا لثقافته المغربية التي نشأ عليها في أزمور التي كانت حينها حاضرة متطورة. وحدد الجموسي السياق الذي جاءت فيه رحلة نارفاييز الإسباني، كما تناولت مداخلته جوانب متعددة من شخصية مصطفى الأزموري في مجموعة من الدراسات، ومنها أنه شخص راجح العقل، شجاع، وأفضل لغوي ضمن مجموعته، طبيب حكيم، أول دبلوماسي، أول رجل من العالم القديم يكتشف ولايتي أمريكا ومكسيكو، رجل ما بعد حداثي في عالم على أعتاب الحداثة. ليخلص الجموسي إلى أن مصطفى الأزموري شخصية فريدة لعبت دورا مهما في عصرها وما زال لديها ما تقول لعصرنا.
المداخلة الثانية قدمها الباحث محمد مفضل معنونة بـ”مراجعة للدراسات الأكاديمية حول استيبانيكو: بحث معرفي لشخصية استيبانيكو من حطام المركزية الأوروبية والأمريكية”، ابتدأها بفكرة وصف الاهتمام باستيبانيكو المستكشف، الإرث الإنساني الذي ترك نموذجا لإنسان متعدد الثقافات، وتساءل عن فترة الاهتمام باستيبانيكو بداية من الستينات في الولايات المتحدة الأمريكية، التي أرجعها إلى التحول ما بعد الحداثي الذي دفع كثيرا من المفكرين للاهتمام بالمهمشين. مشيرا إلى بحثه المتمثل في مراجعة المقالات المنشورة التي تتبنى النظرة ما بعد الحداثية في مساءلة الحداثة المطلقة، ومن بين المواضيع البارزة التي قام بتحليلها أصل مصطفى الأزموري ودوره وقدراته اللغوية والتواصلية والطبية، وموته، واحتمال قتله من عدمه. وتطرق كذلك إلى تغييب العديد من المصادر التاريخية، مبرزا تناقض السرديات وإعادة الاعتبار لمصطفى الأزموري من وجهة نظر نقدية.
جاءت المداخلة الثالثة للروائي عبد العزيز ايت بنصالح وهي في شكل شهادة موسومة بعنوان “استيبانيكو الأزموري شخصية ملحمية في رواية الأفرو أمريكي”، قدم فيها لمحة عن شخصية مصطفى الأزموري، مؤكد على أنه قرأ الكثير مما كتب عن هذه الشخصية الملحمية، ولم يستسغ أن يعتبره عبدا، وأرجع ذلك إلى شروط البيع والشراء التي كانت آنذاك والتي منها ألا يتعدى سن الذكور حين البيع خمس سنوات والإناث 25 سنة، ولما اختطف مصطفى الأزموري كان يبلغ 15 سنة، واعتبر بنصالح أن هذه الشخصية غنية ومتنوعة تستحق أكثر من بحث.
وقدم الشاعر عبد الرحيم الخصار في المداخلة الرابعة في ورقة عنونها بـ “لماذا تعقبت الأزموري في جزيرة البكاء الطويل” قراءة في رواية جزيرة البكاء الطويل التي يتعقب فيها مسار مصطفى الأزموري. كشف فيها عن الصدفة التي قادته إلى التعرف على شخصية استيبانيكو من خلال برنامج وثائقي في أحد المواقع الإلكترونية، صدفة دفعته إلى التفكير في كتابة رواية حول هذا الشخص العظيم الذي خرج من الهامش ليتحول إلى مستكشف. ويشير المتدخل إلى كون الكتابة الروائية كانت مغامرة خاصة وهو يلجها من بوابة الشعر، وقد قادته هذه المغامرة إلى البحث عن المادة والوثائق التاريخية إلا أنه اصطدم بشح المصادر والأخبار، وبعد مسيرة مضنية من البحث والتنقيب تمكن من إخراج صورة استيبانيكو من التاريخ إلى التخييل.
في حين جاءت المداخلة الخامسة والأخيرة للباحث الأثري أبو القاسم الشبري بعنوان “قراءة في مسار مصطفى الأزموري النكرة في تقرير رأس البقرة”، وقد تعقب فيها مسار مصطفى الأزموري باعتباره أول أفريقي عربي مسلم تطأ قدماه أمريكا سنة 1537، وأشار المتدخل بداية، إلى أن كل قراءة لتقرير رأس البقرة ينبغي أن تراعي السياق التاريخي لتلك المرحلة والتي تزامنت مع مرحلة محاكم التفتيش وطرد المسلمين من الأندلس، مرحلة حاسمة وحساسة، وقد يكون من الطبيعي أن تكون ذكرى أو ذكر استيبانيكو منعدما داخل التقرير، ويعزز هذا دلالة الاسم “استيبان” الذي يحمل دلالة تحقيرية وغالبا ما يتم نعته بالعبد. انتقل المتدخل لتقديم مجموعة من الاستشهادات من التقرير والتي تكشف في مجملها عن الحقد والكراهية التي يكشف عنها خطاب رأس البقرة.
واختتمت الجلسة العلمية الأولى بأسئلة المتدخلين ونقاشاتهم التي تمحورت حول شخصية الأزموري الغنية من جوانبها المتعددة، ودوره الفعال في إغناء التواصل بين القارات، وفي بناء جسر للعلاقات المغربية الأمريكية الأوربية.
واستكمالا لأشغال الندوة العلمية، استهلت الجلسة الافتتاحية الثانية التي انعقدت يوم السبت 3 غشت 2024 ، والتي ترأسها الأكاديمي من جامعة نيويورك الأستاذ عبد السلام الادريسي، وترجم كلماتها ترجمة فورية الأستاذ خالد لحلو، بكلمة السيدة ممثلة قنصلية الولايات المتحدة الأمريكية بالدار البيضاء التي اعتبرت الاحتفاء بمصطفى الأزموري يعكس الهوية المغربية التي تعتمد على التعددية والاختلاف، كما اعتبرت قصته الأزموري جسرا للتعايش والأخوة وحوار الثقافات والحضارات.
وأكد عبد السلام الإدريسي على أن إرث استيبانيكو جسر ثقافي وأكاديمي، لأنه لعب دورا حاسما في رسم خريطة أمريكا الشمالية والجنوبية، وكان واحدا من الأفارقة الذين لعبوا دورا مهما في الترجمة والدبلوماسية، نظرا للمهارات التي كان يمتلكها، وخلص إلى أن هذه الشخصية المهمة يجب الاهتمام بدراستها بشكل صحيح لأنها تعزز فعالية الروابط الأكاديمية بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وتعتبر جزءا مهما من تاريخ الاستكشاف الأمريكي المبكر.
وعبر المدير الإقليمي لقطاع الثقافة بالجديدة، عن شكره للجنة المنظمة ولجميع منظميها ومتعاونيها ومسانديها في إنجاح هذه الندوة التي تروم التعريف بمصطفى الأزموري وبيان أثره في مد الجسور بين الحضارات، فهو قيمة إنسانية نبيلة من أبناء أزمور؛ هذه الحاضرة الشاهدة على تنوع الحضارات والثقافات وهي إلى اليوم تفوح بعبق التاريخ ومعالمها شاهدة على هذا التنوع والتناغم ودالة عليه.
بعد هذه الكلمات الافتتاحية، تم عرض شريط: مصطفى الأزموري، مغربي في بلاد الزوني، من إعداد الكاتب والدبلوماسي عبد القادر الجموسي، وإخراج هشام الركراكي، متعقبا مسار مصطفى الأزموري الاستكشافي والأماكن التي عبر منها بعد هروبه إلى وفاته، ويكشف عن الآثار التي ظلت شاهدة عليه من خرائط ترسم مساره، ووثائق تاريخية، وصور وتماثيل لشخصيته.
لتنطلق بعد هذا الفيلم الجلسة العلمية في محور “من أزمور إلى أمريكا: على خطى الرحالة المغربي استيبانيكو” نسق أشغالها عبد السلام الإدريسي من جامعة نيويورك، بمداخلة السفير والأكاديمي المغربي المختار غامبو في ورقة بعنوان “الدور التأسيسي للمغرب في التعريف بالعلاقات الأطلسية”، حيث اعتبر أن تغيير الاسم هو محو للهوية أو ما يسمى بالهوية الكولونيالية، وأضاف بأنه يجب توظيف مصطفى الأزموري في سياقات متعددة، ويجب كذلك إعادة التفكير في مسألة الأطلسية مركزا على أن العنصر الأطلسي جزء لا يتجزأ من الهوية المغربية، ليخلص إلى أن الثقافة يمكن لها أن تصلح ما تفسده السياسة.
أما المداخلة الثانية للمؤرخ والأكاديمي جون وينغ الموسومة بـ”استيفانيكو والفضاء الإيبيري الأطلسي”، فقد تطرق فيها إلى أصول التوسع الإيبيري وخاصة الإسباني في المحيط الأطلسي في العقدين 1530-1520، وعرج على الاضطرابات التجارية في شرق البحر الأبيض المتوسط في القرن التاسع عشر التي أدت إلى زيادة التجار، وعن غزو إسبانيا والبرتغال للجزر التي تم تنظيمها كآلات للإنتاج الزراعي، كما تحدث عن استمرار الفتوحات من خلال مجموعات صغيرة من المغامرين المهتمين بالشهرة والمغامرة، وفي كل هذا كان استيفانيكو جزءا من العالم الأطلسي الإسباني إلى حدود 1940 حيث كان يجلب الأفارقة والأوربيين إلى اتصال أوثق.
المداخلة الثالثة للأنثروبولوجي المغربي حساين إلحيان الموسومة بـ”الإنسان الأطلسي: سيرة وتركة استيفانيكو دورانتيس في العالم الأطلسي” عرضا لمسارات مصطفى الأزموري في الأمريكيتين، ووضعا له في سياقه التاريخي، واقتراحا لطرق جديدة لاستعادة دور مصطفى الأزموري في أمريكا والعالم الأطلسي.
وكانت المداخلة الرابعة للكاتب الأمريكي بول شنايدر بورقة حول “استيفانيكو، جسر ثقافي مع أمريكا الشمالية”، ركز فيها على ضرورة اعتبار مصطفى الأزموري واحدا من أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام، لكنه الأقل درسا في تاريخ جنوب أمريكا، واعتبره كذلك جسرا في التواصل الثقافي بفضل إتقانه لعدة لغات وامتلاكه لعدة ثقافات، وأشار في الأخير إلى أن البحث في سيرة ومسار مصطفى الأزموري لا يجب أن ينسينا الرحالة ابن بطوطة الطنجي.
وبعد نقاش موسع لمختلف الأسئلة والقضايا التي طرحتها الندوة خلال اليومين، قدم عبد القادر الجموسي في الجلسة الختامية لهذه الندوة العلمية الثانية حول مصطفى الأزمور، مجموعة من التوصيات منها:
- التنسيق العلمي والأكاديمي للباحثين من مختلف الجنسيات حول الأزمور؛
- تجميع وترجمة الوثائق ودراسة الأرشيفات الرسمية المتعلقة بالرحلات التي تمت مطلع القرن السادس عشر؛
- إطلاق جائزة لمصطفى الأزموري ومنحها للدراسات حول هذه الشخصية؛
- تأسيس مجموعة بحث حول هذه الشخصية المغربية الإفريقية؛
- التركيز على التراث الشعبي المحلي؛
- إيلاء أزمور العناية اللازمة في البحث في تراث أزمور الفني ثقافيا وتراثيا؛
- المطالبة بإنشاء متحف استيفانيكو والدراسات الأطلسية.
وفي الكلمة الختامية لأشغال الندوة، أكد شعيب حليفي، على ضرورة الحرص على البحث في الشخصية والهوية المغربية والالتزام بالتركيز على التراث الشعبي المغربي الغني تراثيا وثقافيا، والاشتغال على الذاكرة المغربية في أبعادها المختلفة.
تعليقات
0