فدوى اجمولة
حمداكثيرا ، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين؛ محمد بن عبد الله، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الأخيار المهتدين وبعد؛ فمن بين ما تفخر به الأمة العربية تراثها المكتوب الذي يشكل لبنة ثقافية عريقة. أودعه المؤلفون أسفارا كتبوها بأنفسهم .
ويعد مجال التراجم الذي عرف تقدما كبيرا عبر التاريخ أحد وجوه هذا التراث، وهو قائم على ذخيرة الرجال، لأن الرجال هم مادة المجتمعات العالمة. ولا يتيسر ذلك دون البناء العلمي والتربوي والروحي للأعلام البشرية ، التي تصنع المعارف في مختلف حقولها، فوُجودها ضمانة التراجم واستمراريتها .. وقد كانت صنعة التراجم مطلبا هاما مُلحا منذ القديم، ويعبر عن هذه الأهمية الكم الهائل لكتب التراجم العربية التي تنوعت مقاييس ومعايير تصنيفها. فمنها الموسوعية ، والمتخصصة، ومنها التي صنفت الأعلام حسب مقياس معرفي، أو جَغرافي، أو زمني قديم أو حديث ، واسع أو ضيق. ومازال أهل المغرب والصحراء ظاهرين على الحق لا يثنيهم عارض عن ذلك ، و وترتب عن ذلك ظهور أهل الوَلاية و الصلاح فيهم، إذ إن الصحراء مجال روحي يعج بالصلحاء و الأولياء، وهم طائفة عظيمة يحفظ الله بها البلاد والعباد والمعارف والقيم، ومنهم المعروفون والمغمورون الذين أهملت أخبارهم وجهلت آثارهم اليوم حتى عبرهم العابرون وتجاهلهم المتجاهلون.
ولا سبيل إلى معرفة الصحراء ثقافيا وفكريا دون معرفة رجالها، ممن وَجدوا فيها مرتعا نقيا هادئا واسعا للتأمل، و الخَلْوة، والزهد، وتربية النفوس وبنائها، وصناعة العلم واستمرار تبليغه. ولا شك أن هذه النماذج البشرية الروحية الراقية لها ما يشابهها في مراكز عمرانية مغربية وعربية وإفريقة أخرى.. وقد كان معيننا في البحث عن هؤلاء الأعلام الصلحاء جملة من ذخائر التآليف التراثية، والمظان الحديثة، منها المخطوطة والمطبوعة، المعروفة و المغمورة ،العربية، والمغربية، والصحراوية، والشنقيطية ، والإفريقية أيضا.. تضم تراجم أولياء وصلحاء الصحراء بشكل واسع أو ضيق، وهي من ضروب معرفية متقاربة ، لذلك اشتغلنا بكتب التراجم، والجَغرافيا، والتاريخ، والطبقات، والأدب، و الفقه، والرِّحلات، والشعر، والقراءات القرآنية، والتفسير، والمونوغرافيا والمعْلمات، والموسوعات ، وغيرها.. ونحن نُكْبِر الجهد الذي قام به مؤلفو تلك الكتب حتى حفظوا سِير الرجال، ووثقوا حضورهم التاريخي حتى وصلنا اليوم. وقد نقبنا و تمكنا من سبر أغوار مظان عديدة هامة.. فوقفنا بتراجم جملة من صلحاء الصحراء الذين بلغت شهرتهم أهل المشرق، فعرفوهم، وأثبتوا سيرهم، وإن كانت مختصرة أحيانافي مصادر تراجم عربية منها”جامع كرامات الأولياء” للنبهاني، و “الأعلام..” للزركلي، وفيهما ترجمة الشيخ سيدي المختار الكنتي، والقطب ماء العينين. ونجد في الثاني ترجمة محمد العاقب الجكني، والتمكروتي علي بن محمدو. و”معجم المشايخ”للزبيدي، توجد به ترجمة أبي نعامة الكنتي. ومن أهم مصادر التراجم المغربية ؛ “سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاس” ، للكتاني وفيه تراجم غزيرة تقترب من ألفي ترجمة، فيها تراجم عدة صحراويين منهم القطب ماء العينين بن مامين، و سيدي مَحمد التواتي، و أبو محمد بن أحمد الصحراوي، و أبو القاسم بن أحمد الغازي الدرعي السوسي السجلماسي. وهذا يبرز انفتاح أهل الصحراء على فاس وأهلها وعلمائها .وترد التراجم مرتبة حسب الترتيب المغربي لحروف الهجاء باعتماد الحرف الأول من الاسم الأول للعلم المترجم، مرقمين بالتسلسل، تمكينا وتسهيلا للعرض والبحث والإحصاء.في مصدر شنقيطي هام هو ؛ “فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور” للبرتلي الذي يقول بهذا الخصوص”.. مرتبا لهم على حروف المعجم المغربية مُقدِّما عند اتفاق أسمائهم من سبقت وفاته” . نجد فيه تراجم كثيرة منها ترجمة أقيت الحاج أحمد بن عمر بن محمد الصنهاجي، والألفغي أبي بكر بن محمد بن أحمد، وبير أبي بكر بن أحمد، والتيشيتي أبي بكر بن أحمد بن ألشغ، والجُمَّانِي الطالب أحمد بن محمد الطيب التيشتي .وقد لاحظنا حرص البرتلي على ذكر سمتي الصلاح و الوَلاية من خلال عبارات من مثل ( ولي ، وعارف، وقطب ، وذو كرامات.. )، وهذا يبرز حرصه على التمييز بين الوَلاية والعرفان والعِلم .. والبرتلي مترجِم له دراية كبيرة بالرجال، عارف درَّاكة لهذه المفاهيم ، لذلك كان حريصا على إثباتها ، والشهادة بها وهو نفسه مثال لهما. و قد اعتنى صاحب ” الوسيط في تراجم أدباء شنقيط “، بترجمة أدباء شنقيط، و عرض أشعارهم، فاعتمد معيارين في عمله هما ؛ الأدب و الانتماء الجَغرافي للمترجمين ، وفي هؤلاء صلحاء وأولياء منهم الأبْيَيْرِي سيديّا الكبير، وسيدي محمود اولمرابط بن الطالب..وشنقيط هي نفسها بلاد التكرور المذكورة في عنوان كتاب ؛”إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور” ، لصاحبه محمد بلو بن عثمان فودي، وفيه بعض التراجم منها ترجمة الشيخ سيدي الوافي الكنتي..وقد اعتنى الشيخ محمد الكنتي بعرض تراجم نقلها عن والده الشيخ القطب سيدي المختار الكنتي في “الطرائف التالدة في كرامات الشيخين الوالد والوالدة ” منها التيماوي محمد عبد الله بن موحى بن خذ، و التوجي سيدي عمر بن سيدي أحمد . وقد عدنا إلى نسخته المخطوطة بالخزانة الملكية بالرباط ، وإلى الرسالة التي حقق فيها شفيق أرفاك بابين من المخطوط..
وقد كان هذا الكتاب مرجعا أساسا اعتمده عدة مؤلفين في ترجمة أعلام كنتة ، منهم “بول مارتي” في كتابه “كنتة الشرقيون “، و توجد به تراجم مختصرة كثيرة، لا تعتني بالجانب الروحي، بقدر ما ركز المؤلف فيها على إضاءة الجانب الدبلوماسي في حياة الأعلام، ومنهم كثير من أبناء الشيخ محمد الكنتي الخليفة. و نجد في “جُنة المُريد دون المَريد ” للشيخ محمد الكنتي تراجم بعض الشيوخ من الكنتيين، ومن عاشرهم، وهو صاحب”الرسالة الغلاوية “، وفيها بعض المعطيات عن الأعلام الغلاويين، ومنهم محمد بن إبراهيم بن ببكر “محمد غل”.ومن كتب التاريخ ” تاريخ ابن طوير الجنة” للحاجي الواداني، وفيه معلومات تتعلق بـ التيشتي أحمد الولي بن انبوي خال، والتنواجيوي سيدي عبد الله بن أبي بكر…و لا يقتصر العلامة المختار السوسي في “المعسول” على أعلام درعة وسوس، بل كان متصلا ومتواصلا مع أهل الصحراء، مترجما نزرا ممن عرفهم من رجالاتهم ، إذ يعد هذا المصدر في جل أجزائه ذخيرة هامة في هذا الباب، ولاحظنا أن مؤلفه يصفُ عددًا من الأعلام بـ”الصحراوي” ، و الرقيبي بـ” الركائبي”، ويستفيض في التراجم من خلال ذكر الأعلام المتصلين بهم، وإثبات نسبهم، وعرض نصوص كراماتهم، وقد يستغرق في سرد سيرهم في الطفولة ،كما فعل مع الشيخ البكري يِعْزى وِهْدَى. وقد وردت في أجزاء كثيرة منه أعلام صحراوية من قبائل مختلفة منها سيديّا الكبير الأبْيَيْرِي ، والبصير الشيخ سيدي إبراهيم الرقيبي، و بوكرفة سيدي إبراهيم بن عبد الله ، والتهالي سيدي عبد الرحمان، والشنقيطي محمد يحيى بن محمد المختار…ونقف عند تراجم الأسرة المعينية في مخطوط ” إفادة الأقربين في التعريف بذرية شيخنا الشيخ ماء العينين”، و الكتاب المخطوط: “سحر البيان في شمائل شيخنا الشيخ ماء العينين الحسان”لماء العينين بن العتيق ، وكتاب ” قرة العينين بكرامات الشيخ ماء العينين “لمربيه ربه ماء العينين ، و” مجمع البحرين في مناقب شيخنا الشيخ ماء العينين ” لمحمد العاقب ابن مايابا الجكني، وهي مصادر مخطوطة هامة تعج بالعديد من الصلحاء من نسب الشيخ ماء العينين من أبنائه وبناته، وكذلك بعض أصهاره ، وطلبته، ومريديه، ومنهم أحمد بن الشمس أنْفَال، و الشيخ سيدي أحمد بن عمر العروسي، وماء العينين الطالب أبوبكر”الطالبوي”.وترد ترجمة الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين في تحقيق كتابه: “الجأش الربيط في الدفاع عن مغربية شنقيط وعربية المغاربة من مركب وبسيط”. كما ترد تراجم العديد من المعينيين في أوئل دواوينهم ورحلاتهم ، حيث يقف المحققون على تراجم المؤلفين ، كما يعرض كتاب: ” الأبحر المعينية في بعض الأمداح المعينية “في جزئيه، وهو مازال عبارة عن أطروحتين جامعيتين لباحثين من جامعتين مغربيتين؛ جامعة محمد الخامس بالرباط ،وجامعة مولاي عبد الله بفاس، أشعار مادحي الشيخ ماء العينين، مما فتح الباب لمعرفة لفيف منهم وفيهم صلحاء من مثل محمد العتيق ومحمد العاقب…وترد تراجم هامة في كتاب:”الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأروبي” منها ترجمة أنفال أحمد بن أحمدُّ ، وأنْفَال أحمد بن الشمس ، و سيدنا بن محمد بن سيدي الأمين الجَكَنِي، و محمد العاقب “مايابى الجكني”.
ويشترك هذان الكتابان في عدة تراجم.و ييسر لنا كتاب “جوامع المهمات في أمور الرقيبات” لمحمد سالم الوقوف عند ترجمة البكري أبي يِعْزى وِهْدَى أيضا.وفي ” طبقات الحضيكي ” لمحمد بن أحمد الحضيكي ، نجد ترجمة البلبالي مخلوف بن علي بن صالح، والتمكروتي عبد الله بن محمد بن مسعود الدرعي. وفي” الحسوة البيسانية في علم الأنساب الحسانية”للناصري الولاتي ، نجد ترجمة التنواجيوي الشيخ بن أحمد بن عثمان، والجماني الطالب صديق الشريف ..ويعد كتاب” الدرر المرصعة بأخبار أعيان درعة” لمحمد المكي بن موسى الدرعي، مصدرا حافلا بتراجم الصلحاء الناصريين والدرعيين الذين أقاموا بتمكروت، وتعلقوا بالزاوية الناصرية، وهم كثير، منهم الدرعي إبراهيم الأنصاري، و الدرعي أبو القاسم بن عبد الرزاق، والدرعي أحمد بن علي بن داوود الحاجي. ويبدو أن صاحبه عندما غير عنوانه من الصلحاء إلى الأعيان فتح مجال التراجم لتتسع لغيرهم من الأدباء والعلماء ، فمنهم من خفَّت وَلايته، ومنهم من عَلا أدبه. ومنهم من كان صالحا فاستعان بالعلم ، ومنهم من ثَقُل صلاحه، وكثر تأليفه،، فهم ليسوا على كفة واحدة ، وندرك هذا من خلال التحليات الواردة في التراجم، والإسهاب فيها . وإلى جانب الدرر المرصعة هناك مصدر لتراجم صلحاء درعة هو “الدرة الجليلة في مناقب الخليفة”، لمحمد بن عبد الله الخليفتي ، ويضم تراجم الدرعيين وفيهم الناصريون.و نستعين، من جهة أخرى، بمصدر هام جدا هو ” الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” في أجزائه العشر، للوقوف بتراجم رجال أقاموا أو زاروا مراكش وأهل الصحراء منهم.ويضم كتاب:” نصوص من موريتانيا “ترجمة الشيخ اليدالي . وكما يضم كتاب “نزهة المستمع واللافظ في مناقب الشيخ محمد الحافظ” ترجمة الشيخ محمد الحافظ . و يحظى العديد من الأعلام بتراجم في “معلمة الصحراء” لعبد العزيز بنعبد الله، كما تلم “معلمة المغرب “وخاصة في جزئيه الخاصين بالصحراءـ التي اتخذناها منطلقا في البحث ــ تراجم عدد هائل من الصلحاء والأولياء، منهم سيدي ميمون الصحراوي، وماء العينين شبيهنا ، والطالب أخيار بن الشيخ ماء العينين، وماء العينين الطالب بوبكر و بن الشيخ ماء العينين، ونقف في كتاب: “بلاد شنقيط المنارة ” على ترجمة الشيخ محمد المامي الباركي.كما يوجد كم هائل من الصلحاء والأولياء السباعيين بالصحراء الجنوبية في كتاب “الأنس والإمتاع في أعلام أشراف أولاد أبي السباع” ، لصالح بن بكار السباعي ، وفيهم من نشأوا أو أقاموا بالصحراء .و من المصادر الهامة التي تدافع عن شرف السباعيين”الدفاع وقطع النزاع عن نسب الشرفاء أبناء أبي السباع” للفقيه السيد عبد الله بن عبد المعطي الحسني الإدريسي السباعي، وفيه ترجمة جد السباعيين. و ذكر الدكتور محمد دحمان في كتابه: ” الترحال والاستقرار..”عددا منهم أيضا.وينكب أحمد عبد النبي الدعباسي الصديقي في”السلالة البكرية الصديقية” على عرض تراجم أولياء الأتواج ، وهم أبناء أحمد التوجي، وهم من سلالة أبي بكر الصديق.. وعرض الأستاذ إدريس النقوري في كتابه: “أولياء وصلحاء الصحراء” تراجم بعض أولياء الصحراء، وهم محمد بن عمرو اللمطي ، والشريف العلوي مولاي العربي ، ويعزى وهدى ، وعامر الهامل أبو السباع ، وسعيد بوعيطة جد أولاد بوعيطة ، وسيدي الفضيل ، وأحمد الرقيبي ، وشيوخ آل البصير وأبنائه ، والشيخ أحمد العروسي ، والشيخ مولاي بوعزة ، والشيخ أحمد بوغنبور، والشيخ محمد الكنتي، والشيخ أحمد البكاي. ونجد في كتب الجَغرافيا من مثل ” حياة موريتانيا الجغرافيا” معطيات عن مقابر بعض الصلحاء المشهورين، كما نعثر على عدد من الصلحاء في مصنفات تعتني بعلوم القرآن “السند القرآني ” الإقرائي في بلاد شنقيط السند الشنقيطي نموذجا”لسيد محمد ولد عبد الله .ومن كتب المناقب: “النجم الثاقب في ما لليدالي من مناقب” لليدالي، وفيه ترجمته. ومن المترجَمين في الكتاب المخطوط ” الفتح المبين في ذكر مناقب الشيخ محمد فاضل بن مامين” محمد فاضل بن مامين ، ترجمة هذا العَلم الفاضلي.ونجد في كتاب “الدرة الجليلة في مناقب الخليفة ” لخليفتي ترجمة التمكروتي أحمد بن إبراهيم بن علي..وفي “الإكليل والتاج في تذييل كفاية المحتاج”للقادري ترجمة التمكروتي علي بن محمد. وفي “نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني” ، للقادري ترجمة التَنْبُكْتِي محمد بغْيع، وفي “إتحاف المُطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع”لابن سودة ترجمة عديد من الرجال منهم التندغي أحمد الحبيب الهلالي السجلماسي.ومن خلال ما تحت اليد من كتب منشورة ومخطوطة علمنا بوجود كتب أخرى لم نتمكن من بلوغها، ونفترض أنها تحفل بمادة تراجم غنية تخص عدة شيوخ ، وهي متوفرة في المكتبات الموريتانية ، نذكر منها “الرسالة الحجازية”،و”الروض الزاهر في التعريف بالشيخ الحسين و أتباعه الأكابر” ،و” المواهب العندية في المناقب الحمدية” ، و “عقود اللئالي في كرامات أبي المعالي للعربي اليماني”، و”السيف البتَّار..”، و” الإرشاد في الهداية إلى السداد وحسن الاعتقاد”، و”العمران”..وهكذا يتقدم البحث في التراجم بتقدم تحقيق مصادر التراث المخطوطة بالصحراء، وتقدم الاشتغال به .. وجوهر هذا العمل العلمي هو الحياة الروحية لأعلام الصحراء ، وهي مجال جَغرافي استراتيجي متجانس ذو امتداد طبيعي من جنوب المغرب وبلاد شنقيط إلى بلاد السودان وفيه صنهاجة وتافيلالت، و درعة، وفكيك في الصحراء الشرقية .وقد كان هذا المجال الجَغرافي واسعا مفتوحا في القديم، لكنه عرف تقسيمات خرائطية عبر التاريخ، فتغير اسم عدة مناطق، ومنها التي احتُفظ بمسمياتها الأولى. لذلك نحرص ما أمكن على تحديد المعطيات المكانية المتوفرة في التراجم لتمييز المناطق، وتوطين الصلحاء. وتحضر أماكن الصحراء في تراجم هذا الكتاب من خلال أسماء المناطق، والمدن، والزوايا، والأنهار، والمدافن، والمساجد، والأودية، والقبائل(كنتة ، تجاكانت ، بارك الله .. ).نحن نتوخى بذلك توضيح جانب هام من الخريطة الدينية المغربية بالصحراء ، وجانب من التاريخ الثقافي والاجتماعي فيها، لأن كثيرا من الرسوم ما تزال قائمة بالرغم من تبدل الأحوال، ودروس الديار، وعفاء الآثار . وقد كانت حركة التصوف ودينامية الصلاح ممتدة، فاقت وتجاوزت التقسيمات المكانية، وكان الولي أو الصالح عابرا للحدود. مستفيدا من جل عوامل الاتصال التي أتاحت التواصل بين أهل هذا المجال، فكانت الصحراء جسرا تواصليا مفتوحا بالغرب الإفريقي، منفتحا أيضا على المشرق بسبب الرِّحلات الدينية والعلمية، مما فعَّل التلاقح المعرفي الفكري بين أفراد الأمة العربية في المشرق و المغرب، وتبادل المعارف، والمؤلفات، و نشاط رحلة الكتب و المكتبات. وقد اعتمدنا في انتقاء أعلام الصحراء على المحتد أي أصل الأعلام وانتسابهم للصحراء، واستتبع هذا صلات أخرى بالمكان ، أبرزها المنشأ ، و المثوى ..وقد ارتبط المحتد غالبا بالقبائل التي تشكلت من تكتلات بشرية بينها روابط الدم، والمكان، والتربية الروحية والعلمية .. وكانت لها أدوار إيجابية لأنها تسعى للخلود، وإبقاء النسل والأصل حتى تنافس المجموعات الأخرى، لذلك رصدنا تصنيفا للأعلام من خلال الانتماء القبلي الذي يسهل تصوير البنيات الاجتماعية في مراحل عدة . وتنتمي التراجم إلى فترات تاريخية متعاقبة متلاحقة متوالية غير منقطعة، عرفت حياة وحركة روحية قوية تُبْرز استمرار الصلاح والطرق الصوفية في الصحراء منذ القرن الرابع إلى الرابع عشر الهجريين. إن نعتَ العَلم بالوَلاية أو الصلاح مسألة خلافية، فقد عرف المفهومان جدلا بين الإنكار والإثبات منذ القديم ومازال ، لذلك حرص المؤلفون قديما على التعريف بالوَلاية والاستدلال عليها لإثباتها، وعرض مناقب الأولياء و كراماتهم الكثيرة أو القليلة حسب تداولها وشهرتها.كما اعتنى المدونون والمترجمون في الصحراء بذلك. وليعلم القارئ الكريم أن إسناد صفة الصلاح أو الوَلاية ليست من اجتهادنا بل أخذناها من المظان المعتمدة في البحث ، فنحن لم نعمل إلا على نقلها، فأصبحت عندنا عمود تصنيف هذا السفر وغايته. والحق أن الوَلاية لا يعرفها إلا الله، لكن المصادر قد أتبثتها في نطاق شهادة الآخرين على أصحاب هذه الصفة، و إذا كان الأمر هكذا في هذه المنقبة الرفيعة فنحن لا يمكننا في كل الأحوال نفي صلاح هؤلاء الرجال في حالهم، وفي معاملاتهم، وعلاقاتهم بالناس ، وصلاح أثرهم في النفوس وآثارهم في العلوم والمعارف. إنهم نماذج لها أدوار طلائعية في المجتمع الصحراوي ، مازالت تشكل مفخرة للأجيال ونبراسا روحيا يهتدى به إلى اليوم، لذلك فالعناية بعرض تراجم الصلحاء، والتنقيب عنها مسعى معرفي إيجابي، يقوي القلوب، ويحيي النفوس، ويعلي الهمم، وهي مَهَمة علمية شاقة. وقد ظهر لنا أن عددا من أعلام صلحاء الصحراء ومتصوفيها ينتمون إلى طرق بارزة أهمها القادرية، والكنتية، والتيجانية، والشاذلية، والغظفية ، والمعينية.. كلها مالكية المذهب، تغترف من السُّنة النبوية، نسج مريدوها تواصلا مستمرا بينهم و مواخاة . والوَلاية والصلاح غير مشروطين بالطريقة، فكثير من الأعلام الصلحاء لا نجد معلومات عن مشربهم الطرقي .كما أن مكان الدفن ليس دليلا على وَلاية المدفون أو صلاحه ، فيمكن أن نجد من غير الصلحاء من دفن معهم في مقبرة أو ضريح أو زاوية . وتُعَبِّر التحلية، و نصوص الكرامات، والمناقب، وشهادات الأعلام عن الصلاح والوَلاية، إذ نجد عبارات من مثل؛ “كان بيته بيت صلاح وعلم “، و”الولي المكاشف صاحب الكرامات “، و”سيد الوقت وبركته”، و” مقامات الوَلاية”، و”المشرب الصوفي”،وغيرها. وقد تصير”الوَلاية” لصيقة باسم العَلم لا يُعرف إلا بذكرها.وقد اعتنى العديد من المؤلفين بسمة الصلاح والولاية في عناوين كتبهم ، في حين تجنب الكثير منهم ذلك، فبدَّلوا العنوان، وأبقوا على تراجم الأعلام، وهذا ما كان مع صاحب كتاب: ” أعيان درعة” فهو في أصله صلحاء درعة .وقد جمعنا في هذا السفر أزيد من خمسُمائة عَلَم غطَّت مجالا زمنيا ممتدا من فترة المرابطين مرورا بعصر السعديين، وانتهاء بعصر العلويين، من المجال الصحراوي بما فيه الصحراء المغربية الجنوبية، وبلاد شنقيط، وكذلك المناطق التي هاجرت إليها بعض القبائل الصحراوية (حوز، مراكش، وسوس…) المكان والقبيلة اللذين تنتمي إليهما الأعلام موضوع البحث. ولا نزعم الإحاطة بجميع الأعلام الزهاد والصالحين والفضلاء في المنطقة ، لأن هذا يتطلب زمنا طويلا. كما تطلب منا البحث في التراجم معرفة جَغرافية، وتاريخية، وتتبعا لدينامية القبائل، وتتبع الحركة الأدبية، والعلمية، والتربوية التي تتعلق بالمحْضرات، وبناء الزوايا، ونسْخ الكتب، ونظْمها، واختصارها، وشرحها، وتكملتها، والمعرفة بالمشْيخات، و التلاميذ ، وأخذ الأسانيد ونقل العلم ، ورِحلات الحج، والعلاقات الدبلوماسية للشيوخ بالسلطة المركزية أو المحلية ..فهذه كلها جوانب هامة في تراجم الشيوخ قد تتوفر المعلومات بخصوصها، وقد تقل، حسب مكانة الشيخ، والإقبال عليه، ودراسة سيرته وآثاره. سيجد الباحثون في هذه التراجم معطيات تتعلق بتاريخ المغرب العام و الخاص بالصحراء، ولاسيما الجانب الديني، و التاريخ الاجتماعي و الثقافي، إذ تضم نصوص التراجم مادة حافلة مُغرية قابلة للدراسة؛ تتناول التحول الثقافي بالمغرب الأقصى والصحراء لقرون، وتوثق أحداثا هامة ترتبط بالصلحاء و شخصيات دبلوماسية أحيانا.وتتوزع تراجم الرجال في ركن من هذا السفر حسب معايير محددة بشكل سابق ، حيث يدرج الاسم تحت الحرف الأول من النسب، أو القبيلة المثبت المشهور للعلم، مما يمكن من التمييز بين الأعلام الذين ينتمون لنفس السلالات، والقبائل، والعوائل المعروفة بالعِلم والتدين من مثل الكنتيين، والمعينيين، والسباعيين، والركيبيين، والباركيين(أهل بارِك الله)، والجكَنيين، واليعقوبيين، أو المناطق (درعة مثلا..).وتوجد أسماء أعلام لا تمكن من معرفة نسبهم مما يُصَعِّب تصنيفهم. لذلك نعتمد القرائن السليمة في هذا التصنيف، ونتتبع النسب في التراجم، والمظان المتخصصة لتحديد انتماء العلم لمنطقة أو قبيلة، ثم نثبته تحت الحرف المخصوص به، فنجعل الكنتيين تحت حرف “الكاف” ، والمعينيين تحت حرف “الميم” وهكذا، ونستشير باستمرار أهل التخصص من العارفين بالتاريخ والجَغرافيا المكانية المدروسة لضبط المعطيات، وتوطين الأعلام . وأما ترتيب الأعلام داخل الحرف فيكون حسب اسم العلم ، وتعرض الأسماء على الطريقة التقليدية باعتماد الترتيب الألفبائي للحروف الأصلية في النسب أو العلم. ولم نعتمد في التصنيف والترتيب ألفاظا مثل ؛ “أب “و “سيدي” و “الشيخ “و”الحاج” حسب ما هو معروف في أبجديات الترتيب إلا إذا كان اللفظ جزءا من اسم العَلَم لا يبرحه. وتحتوي عدة أعلام بشرية ومكانية أصواتا لها خصوصية نطقية صحراوية غير واردة في حروف المعجم، وبناء على ذلك هناك اختلاف في التعبير عنها ، حيث نجد اختلافا في كتابة الصوت من مؤلَّف إلى آخر ، ومن ذلك أننا نجد في كتاب: “الركيبي”، وفي آخر: “الرقيبي”، و قد اخترنا في هذا المثال النموذج الثاني . ونقف على “الفيجيجي” و”الفيكيكي” وقد اخترنا الكتابة الأولى، والأمثلة كثيرة بهذا الخصوص .. .وإن عديدا من تراجم هذا الكتاب قابلة للتوسع، مما قد يفتح الباب لسفر إضافي، إذا عرضنا نصوص الكرامات، والمناقب ، والأشعار، والمنظومات، والإجازات، لكنا تجنبنا ذلك .و تختلف العناية بترجمة العَلم حسب مكانته ، وقيمته، وتأثيره، وآثاره، لذلك حظيَ الشيوخ الكبار بغزارة التأليف عنهم، والبحث في سيرهم، وكل ما يرتبط بهم، فكانت تراجمهم ثرية واسعة حيث حظوا بعناية المدونين، والمترجمين، والباحثين، والدارسين، وهم كنار على عَلَمٍ، وجودهم بارز، وراسخ، ومستمر في البحث العلمي، ومكانتهم محفوظة ، بل تزداد إشعاعا وإلماعا مع مرور الزمن، ومن هؤلاء القطب الشيخ سيدي المختار الكنتي، والقطب الشيخ العلامة ماء العينين، والشيخ العالم يحيى الولَّاتي.. وقد اختصرنا تراجم هؤلاء المشهورين لتوفرها في مؤلفات مخصوصة بهم ..ومنهم المغمورون الذين لم يحظوا بالعناية اللازمة؛ إن كانت تراجمهم قد وجدت فهي موجزة محدودة لا تكاد تشي بتاريخ الوفاة، ومكان النشأة والدفن، والرحلة. فإذا بدا لنا من الأمر عجزٌ، وتقطعت السبلُ، ذكرنا ما وقفنا عنده من معلومات بسيطة رغم محدوديتها، واكتفينا بها. وبذلك نساهم في تسليط الضوء عليهم، و في استمرار حضور أخرى من خلال توثيق صائب من شأنه ترسيخ الاستمرار العلمي القوي لها.
وقد نجد تراجم مستقلة بذاتها، أو متضمنة في تراجم أخرى، وخاصة حين يرتبط العَلم بغيره بصلة الدم أو التربية أو العِلم … إننا نقدم للأجيال المعاصرة والقادمة نخبة بشرية واسعة غنية ثرية تفوح بالصلاح والعلم ، سعينا إلى تتبع توثيق المعلومات السليمة عنها من المظان التي بحثنا فيها فعلا لإثباتها، والتخلي على المشبوهة أو الكاذبة، وتجنبت الإحالات الخاطئة، وهي معضلة كبرى في كثير من التراجم، لذلك أنبه على أنه تم الرجوع فعلا وفتح واعتماد كل المظان الموثَّقة في التراجم، ولائحة المصادر والمراجع. ونركز في نصوص التراجم على عرض المعطيات المرتبطة بالنسب، و تاريخ الولادة، والوفاة ، والتأليف، والتربية، والتحليات التي تنقل المكانة، والمناقب، والتربية الروحية. و تظل هذه الترجمات رغم اختصارها أحيانا، و ارتباطها بمعايير المعلومات الواردة فيها، طافحة بمعطيات غنية ومتنوعة منها التاريخية، والجغرافية، و الأدبية، والاجتماعية، واللغوية، والروحية، والعلمية..وقد دوَّن التراجم الأولى مترجِمون تربطهم أواصر روحية ودموية بالأعلام المترجَمين، يعرفون العَلم عن كثب ، ولهم دراية بالمرحلة التاريخية التي عاشها وبتفاصيلها، يعتنون بالمناقب والكرامات .. لكننا نحرص على تجنب الاسترسال في ذلك حينما يتعلق الأمر بالمتلقي المعاصر الذي لا يكثرت بأمر الكرامات، ولا يعتني بها. إننا نهدف إلى تيسير تقريب هؤلاء الأعلام من القارئ و الباحث المتخصص، وذلك بإثبات الإحالات الصحيحة، و تقديم المادة الميسرة للدراسة، والبحث في التراث الصحراوي . وقد سجلنا العديد من المميزات والخصوصيات التي تميز حياة هؤلاء الأعلام وتراجمهم أهمها كثرة الصلحاء في المنطقة لسيادة الفكر الديني، و التشبت بالتربية الروحية المتينة، و التعليم الأصيل المبني على حفظ المتون والأسانيد العلمية الصحيحة.ومما نسجله عن هؤلاء الأعلام تجانس الأسماء ، إذ كان أهل القبائل يُسَمُّون أبناءهم وأحفادهم بأسماء من لهم شهرة من شيوخ العِلم والتربية ، فاتخذوا التسمية عادة، وولاءً، واستمرارا لحياة الشيخ من خلال حياة الأجيال القادمة المتمثلة في الحفدة والأسباط ، فهذه ظاهرة معروفة لدى الدرعييين، والناصريين، و المعينيين وغيرهم كثير.. إذ نجد مثلا أن الأحفاد المعينيين قد اتخذوا اسم “ماء العينين” لازمة تتكرر في ذريتهم، سواء تعلق الأمر بأحفاد الأبناء الذكور أو البنات الإناث ، وهذا مايفسر تكرار ” محمد المصطفى ماء العينين ” في أسماء العشرات من الأعلام ممن أدرجناهم في التراجم أو خارجها ، ويفسر أيضا تكرار الأسماء بشكل لافت حتى ما يتعلق بسلسلة النسب، مما يحول دون تحديد العَلم في كثير من الأحيان ، الأمر الذي يتطلب تدقيقا وتتبعا في نسبهم، وضبط وفاياتهم حتى يتم التمييز بين الأعلام الذين يشتركون في النسب نفسه. وهكذا نقف بتكرر الأسماء من خلال أبعاد متعددة من مثل البعد الديني على نحو محمد، وعبد الله ، وحمزة ، والمصطفى، أو البعد المكاني على نحو الورزازي ، و الفيجيجي ، و الشنقيطي، والصحراوي، والدرعي ، و التمكروتي..أو البعد النسبي على نحو الباركي ، و المعيني ، و الجكني ، و الديماني،.. و قد تتقاطع السمة المكانية بالقبيلة في ( الكنتي، والدليمي..) وهكذا.
وارتبطت أسماء كثير من الأعلام بألقاب مسكوكة؛ تكونت عبر شهرتهم، وتداول أخبارهم، وسيرهم في المجتمع الصحراوي الذي ينتمون إليه. وقد عاش الأعلام الحياة نفسها ؛تقوَّتِ الأواصرُ الدموية ، والروحية، والعلمية بينهم، فتشابهت تراجمهم، ومناقبهم، وكراماتهم.
وتشابهت سيرهم وسير سائر العلماء و الصلحاء في مختلف مناطق المغرب من شماله إلى جنوبه، واتسمت ثقافتهم بالموسوعية التي تقوم أساسا على حفظ المتون الدينية والنصوص الشرعية، وعلى رأسها القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، ثم المتون الشعرية، واللغوية، وعلوم الدين .. وتقاربت مشاربهم الصوفية في ظل وحدة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية،مما يؤكد وحدة النسق الروحي، ويبرز الثقافة الوحدوية للمغرب.
وقد عرفت الصحراء إشعاعا روحيا وعلميا بين بلدان الغرب الإفريقي و المشرق العربي عبر قرون، إذ انتقل العديد من أولئك الرجال من ربوعهم ، وعبَروا القارات ، مما يعكس العمق الأنترو ثقافي، و يبين قدرتهم على التأقلم مع بيئات متعددة .
بصموا خصوصية الثقافة الصحراوية بين الأمم ، وأكدوا التجانس الديني والعلمي الحاصل بينهم وبين علماء المشرق ،كما عكسوا في سياقاتهم الاجتماعية الحركية الأنتروبولوجية في ثقافة الغرب الإفريقية ، وقوة المثاقفة والاحتكاك بسبب التأثر والتأثير بين المجالات الجَغرافية. لقد حرَصَ هؤلاء الصلحاء على استثمار الزمن بشكل قوي، حتى يُعمروه بأعمال القلوب والجوارح النافعة، و عباداتهم ، وقربهم من الله ما حَيَوا. فكانوا الفقهاء، والعلماء، والمربين، والشعراء، والمقرئين القرآن، والمفسرين، واللغويين ، والدبلوماسيين، والمربين، والمدرسين.. وكانوا يريدون بذلك زراعة الخير، والاستعداد للقاء الله، ونيل رضاه في الدنيا والآخرة . فنظرتهم للزمن بعيدة الآفاق عميقة المعنى . نلمسها في التراجم من خلال مشيرات لغوية دالة عليها مثل؛ ” كان مُعَمِّر الأوقات ..” ، و “حريصا على تعْمير وقْته بالعبادات “.. ذاك الحرص من شأنه تقوية شخصيتهم العلمية التي شكلت قدوة لطلَّابهم ومريديهم .
إنهم كانوا حريصين على ترسيخ وجودهم التاريخي في خريطة التأليف العلمي المغربي، والصحراي، والإفريقي، والعربي. لذلك لا نكاد نجد عَلَما غير عالم ، أو دون أثر تأليفي ينقل نظره وفكره ، ودورهم في بناء المواقف في تاريخ المغرب ، وحركة الجهاد والمقاومة.. لذلك حرص المدونون على تحلية الأعلام في تراجمهم ـــ التي تتباين حسب مكانتهم ـــ وعرض شيوخهم، و إجازاتهم العلمية، وتدريسهم في المحضرات، و الزوايا، والمجالس، حتى يبينوا استحقاقهم المكانة العلمية التي حظوا بها.
وجُل تلك المعطيات تنقل صورة حية عن تاريخ التعليم العتيق بالمنطقة، وأساليبه،ونوع الأسانيد العلمية المعتمدة حينئذ. ولا يخفى على أي مطَّلع على سير هؤلاء حبهم الكبير للرِّحْلات وتغيير الأماكن، وأهمية الرحلات في بناء الرجال الأفذاذ الصامدين الذين تحملوا مصاعب الصحراء، والحروب، والأزمات، ولم يهابوا الصعوبات أو أثر الغياب عن بلدهم وأهلم.
فقد ارتحلوا كثيرا، وكانوا سفراء الصحراء ببلدان أخرى، تركوا بها بصمة علمية أو دينية أو دبلوماسية ، ومنهم من دُوِّنت رحلاته وخاصة الحجازية منها، ومنهم من لم يحصل له ذلك ، وقد كانت الدينية منها ذات مَهام موازية اقتصادية، وروحية، وعلمية، وجَغرافية، ودبلوماسية، وتجارية، وكانت المنفعة الأصلية تجر معها منافع أخرى .
وقد ارتبطت الحياة المعرفية والروحية بحركات إصلاحية كبرى، قادها شيوخ و زعماء روحيون من مثل القطب الشيخ سيدي المختار الكنتي، والقطب الشيخ محمد المصطفى ماء العينين بن مامين.
وقد هدفت هذه النزعة الإصلاحية إلى إصلاح السلوك عبر توجيه المريدين والطلاب وتربيتهم، وهذا يفسر طول زمن الحياة العلمية للشيخ، وكثرة تآليفه، وطلابه، وأتباعه، فهو يسير وفق خطط عمل كبرى ، تتسع لأمَّة عبر زمن، لذلك مازالت الأبحاث قائمة لدراسة آثارهم، ومعرفة حركاتهم الإصلاحية، وتأثيرها، وإمكان استمرارها اليوم.
ويعد هذا الإسهام العلمي بمثابة بذرة أولية في التراجم، و إجابة ضمنية عن قدرة الباحث اليوم على التصدي لما يستطيع من ثغرات بحثية تتعلق بالتراث الصحراوي ،وسد الفراغ الكبير في هذا المجال، فنحن تجرأنا بهذا الصنيع على اقتحام صعوبات الترجمة، و نواصل ماقام به علماء السلف من اهتمام بإحياء التراث، من أجل لم شتات بنية ثقافية روحية، تُظهر مدى إمكاناته.
ومن شأن هذا الأمر بلورة كيان مغربي موحد من خلال رجال الصحراء، نلامس هذا الكيان المغربي في مختلف أبعاده وتجلياته المجالية بالصحراء، وننظر في مكوناته، ومقوماته، والقيم التي تتحكم فيه، إذ تستوعب التراجم تاريخا عميقا عريقا لا يمكن عزله عن ركب التاريخ الخاص والعام وسير الأبحاث، و تمكن المعطيات والمعلومات التي تقدمها التراجم من إبراز ظواهر، وقضايا، تحتاج أن تثار وتناقش بموضوعية اليوم، كما تُعبر عن التفوق الحضاري، والفكر الديني و العلمي في مراحل تاريخية هامة . إننا نتوخى،في نهاية المطاف، تقديم معجم يتحدث عن التراجم من خلال المصادر ، ويوفر للباحثين مادة علمية ميسرة،تجعل من يستعمله يقف على معطيات غنية ، ويقتنع القارئ أن التراجم مرآة حضارة لفضاء متجانس.
وهذا جواب مبطن عن ادعاءات المنكرين لثبات ووحدة الهوية الثقافية المغربية، وأنها كيان موحد بُني عبر قرون، فنحن لا نتحدث عن أزمة تاريخ أو أزمة بناء، بل هي أزمة اعتراف واطلاع على ذخائر ثمينة تفيض بالحياة .
إن هذا الكتاب وبالرغم من أنه يتضمن عددا من الرجالات الذين تنتهي إليهم معظم الأسانيد الصوفية في الصحراء وفي المغرب الأقصى، ويضم أعلاما جَغرافية عديدة أخرى ، فهو مشروع مفتوح، لأننا لم نضمنه إلا ما كان تحت اليد، وبوسائط مرتبطة بالتراث المكتوب، وحتى هذه الوسائط تبقى بالنسبة لنا محدودة في مادة اللغة الواحدة فما أدراك بباقي اللغات التي قالت في الموضوع نفسه.
وقد أنشأ مصادرالتراجم الأولى جيل من المدونين الموصولين بالأعلام من ذويهم وطلابهم وأبنائهم، وبالتالي هم شهود عصرهم، عاشوا معهم، وزامنوهم، فعرفوهم عن كثب، فكانت ثمرات رصد سير علمية معرفية تاريخية ، نَبعت من الوسط والنسق والسياق الذي عاشت فيه الأعلام، وكلما فَصَل الزمن بين الباحث والعَلم جهِله الناس ، واستدعى ذلك استمرار البحث فيه وتقديمه إلى أجيال لاحقة.ومن مقاصد هذا العمل، تثمين البحث في التراجم، وتقويته وتيسيره، للباحثين والمختصين.
فالتراجم تؤكد ثراء الذاكرة الثقافية، وترسخ ثقافة الاعتراف بالموارد البشرية، وفاعليتها، وتعكس الخصوصية المعرفية، والدينية، والاجتماعية.
ونحن نسجل عناية المغاربة بأعلامهم الصالحة في مختلف المناطق، مما يشي بإمكان إرساء موسوعة وطنية لصلحاء المغرب ترقى إلى لمِّ شملِ تراجم المناطق في هذا البلد الواحد الموحد المتجذر الثقافة بعد جمع شتات تراجم المناطق كل على حدة، وهو مشروع نتوسمه وندعو إليه .
فإذا قدرنا اليوم كما قدر الباحثون بالأمس على صناعة التراجم والاستمرار فيها فهذا يؤكد ارتباطنا الوثيق بالتاريخ والانتماء الوطني القوي .
إن هذا الإنجاز امتداد طبيعي لأبحاث حديثة تسير في نفس الاتجاه أصبحت الخزانة المغربية تزخر بها ، و قد أسهمنا فيها بكتابين سابقين هما؛ “الكرامةالصوفية بالصحراء المغربية خلال القرنين الهجريين 13ـ 14؛ الشيخ سيدي المختار الكنتي و الشيخ ماء العينين أنموذجا “،وكتاب ” سندس الزهراء في تراجم نساء الصحراء ” وفيهن الصالحات والوليات … أملنا واسع في أن يجد القارئ المهتم بتراث الصحراء شيئا مما يفيده، وأن يستنهض مزيدا من الهمم للاشتغال العلمي الجاد به.
تعليقات
0