بقلم: عمر دغوغي الإدريسي /
أما في ما يختص بالمزارع الأوروبية التي انتشرت في سائر أنحاء البلاد، فكان مصدرها الاستيطان الزراعي الرسمي والاستيطان الزراعي الخاص، فقد ركزت إدارة الحماية على الأراضي الجماعية وعلى أراضي المخزن والحبوس لجعلها الميدان الرسمي للاستيطان الزراعي الرسمي.
فخلال الفترة ما بين 1918 – 1921 حصل الاستيطان الزراعي الرسمي على مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، منها: 48.000 هكتار في الشاوية ودكالة وفاس والغرب ومراكش ومكناس والرباط. وحصل من جديد سنة 1925 على 25.000 هكتار، وفي السنة التالية على 35.000 هكتار،وتقرر توزيع ما يقارب هذه المساحة الأخيرة سنة 1927 .
وقد وقفت عمليات الاستيطان الرسمي نهائيا قبل سنة 1937، وأن 27 % من المستفيدين
كانوا يتكونون من الأوروبيين الذين استقروا في المغرب قبل سنة 1919، 49 % من
المستفيدين استقروا في المغرب بعد سنة 1919، و 15 % وفدوا إلى المغرب من بلدان
شمالي إفريقيا المجاورة، و9 % من المستفيدين أتوا من فرنسا وغيرها من البلاد .
أما الاستيطان الزراعي الخاص فقد نتج عن عمليات شراء أراضي الفلاحين المغاربة قسرا
إذ كانت قوات الغزو تسهل على المستوطنين الحصول على الأرض الزراعية بإبادة سكان
القرى والاستيلاء على أملاكهم بالقوة وبيعها للمستوطنين بأبخس الأسعار مستعملة إلى
جانب قواتها قوات الباشوات والإقطاعيين، منهم التهامي الكلاوي وبوشتة البغدادي.
وفي ظل هذه الشراهة التي كان يتميز بها المستوطنون الأوروبيون أصبحت جميع الأراضي
الصالحة للزراعة في المغرب ملكا لهم، حيث بلغت مساحة الاستيطان الزراعي الرسمي
والخاص عام 1956 نحو مليون وعشرة آلاف هكتار أي 20,2 % من مجموع الأراضي الصالحة
للزراعة والتي قدرت مساحتها بخمسة ملايين هكتار، موزعة في ما يتبين من الجدول
الآتي – على 5.900 مزرعة تتراوح مساحاتها بين أقل من عشرة هكتارات وأكثر من 500
هكتار، وكانت هذه المزارع منتشرة في سائر أنحاء المغرب وخاصة في المناطق الساحلية
القريبة من مدينة الدار البيضاء حيث انتشرت 1.885 مزرعة غطت مساحة 375.000 هكتار،
والقريبة أيضا من مدينة الرباط حيث أقيمت 2.313 مزرعة شغلت مساحة 255.000 هكتار .
وتجدر الإشارة إلى أن المستوطنين الزراعيين لم يكتفوا بما حصلوا عليه من إدارة
الحماية من مساحات شاسعة، بل كانوا يزحفون على أراضي جيرانهم المغاربة فيبتلعونها
تدريجيا. ولم تكن حدود مزرعة الأوروبي تعتبر حدودا نهائية إلا عندما تلتقي بحدود
مزرعة أوروبي آخر. وهكذا اتسعت مزارع بعضهم من بضعة هكتارات إلى 800 هكتار.
واستطاعوا خلال فترة وجيزة جني الأرباح الطائلة.
وتجدر الإشارة إلى أن سلطات الاحتلال لم تكتف بالاستيلاء على الأراضي الخصبة وطرد
الفلاحين المغاربة منها حتى أثقلت كاهل الفلاحين بالضرائب الفلاحية المسماة
الترتيب.
إن مصلحة الضرائب لم تكن تأخذ في الاعتبار عند تحديدها لضريبة الدخل على الإنتاج الزراعي
والحيواني التغيرات السلبية في دخل الفلاحين من انخفاض الإنتاج، وهلاك الماشية
والأشجار.
وقد صرح كولياك المراقب المدني بدائرة صفرو أنه في سنة 1934 فرضت إدارة الحماية الترتيب على 1.361 أسرة لم تكن قد زرعت أي شيء ، وفي سنة 1937 بلغ دخل الترتيب 130 مليونا من الفرنكات، وهي سنة المجاعة والانهيار التام للزراعة المغربية، وتقابلها 105 ملايين فرنك سنة 1936، ثم قفز هذا المبلغ إلى 174 مليون فرنك سنة 1938 .
وهكذا كان الفلاح المغربي يشقى ويكدح لا من أجل تحقيق تقدم في مستواه المعيشي، بل
من أجل تغذية خزينة سلطات الاحتلال، بينما وضعه الاقتصادي يسير من سيئ إلى أسوأ
بسبب الانخفاض المستمر في الإنتاج الزراعي، وعدم قدرته على تحمل أطماع المتربصين
بدخله الزراعي الهزيل.
2 – الانعكاسات الاقتصادية للاستيطان الأوروبي
أ – عواقب القمع الاقتصادي على المجتمع المغربي
أدت الهيمنة الاستعمارية، والسياسة الزراعية التي اتبعتها سلطات الاحتلال إلى
إحداث تحولات اقتصادية كبيرة في الوسط القروي المغربي. فمن أجل إخضاع كل التراب
الوطني، والقضاء على مقاومة السكان القرويين للسيطرة الاستعمارية لجأت قوات
الاحتلال الفرنسية إلى وسائل عسكرية مهمة في حربها الاقتصادية ضد هؤلاء السكان،
كإحراق المحاصيل وهدم مخازن الغلال الجماعية وقصف الأسواق والاستيلاء على قطعان
الماشية وتخريب التجهيزات التي تستعمل في عملية الري … إلخ.
وقد نتج عن ذلك تدهور
الأوضاع المعيشية للسكان القرويين.
وقد أدى اغتصاب الأراضي الخصبة من قبل المستوطنين الأوروبيين إلى عواقب وخيمة
ومأساوية على الكثير من المناطق القروية المغربية، فوسائل العيش أخذت تتضاءل
بالنسبة لجماهير الفلاحين تدريجيا بسبب نقص مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، كما
أخذت قطعان الماشية تتقلص أيضا في حين أن أملاك المستوطنين كانت تتعاظم وتكبر.
وبعد أن تمت السيطرة العسكرية على المغرب أرغمت قوات الاحتلال السكان القرويين
المغاربة على أن يقدموا الأيدي العاملة اللازمة لإقامة الهياكل العسكرية
والاقتصادية. وفي موازاة أسلوب السخرة المرتكزة على العمل المجاني، وتطبيقا
لتوجيهات المقيم العام الماريشال ليوطي، أرغم السكان المغاربة من أجل كسب لقمة
العيش على الاشتغال في مختلف أوراش قوات الاحتلال بأجور زهيدة .
كما نجم عن استعمار المغرب تغيرات في أشكال الملكية العقارية، إذ عمدت قوات
الاحتلال إلى الاستيلاء على أراضي المخزن والأراضي الجماعية والأحباس لجعلها
الميدان الرسمي للاستيطان الزراعي.
وفي هذا الإطار أصدر السلطان يوسف ظهير الفاتح من يوليوز 1914 الذي ينص على تحديد أراضي المخزن، ثم ظهير 15 يوليوز من السنة نفسها الذي ينص على منع الأملاك الجماعية ووضعها تحت وصاية الدولة، ويتولى أمرها مدير الشؤون الأهلية الذي يستعين بمجلس وصاية يتكون من مدير الشؤون الأهلية (رئيسا)، ومستشار الحكومة وموظف فرنسي ينوب عنه، وأحد القضاة الفرنسيين. أما الفلاحون المغاربة المهددون في أملاكهم فيمثلهم في مجلس الوصاية اثنان من الأعيان يعينهما الوزير الأكبر.
وكان الظهيران بمنزلة تقنين للطرد الجماعي للفلاحين المغاربة بحجة امتلاكهم واستغلالهم لأراض بطريقة غير قانونية وبدأت رسميا سياسة الإبعاد والحصر أي إبعاد الفلاحين المغاربة عن الأراضي الخصبة وحصرهم في المناطق القاحلة .
إن مختلف هذه الأراضي الزراعية المغتصبة والتي تحولت إلى ضيعات عصرية رأسمالية لم يتم إرجاعها إلى أصحابها بعد الاستقلال، بل تم احتلالها من طرف كبار خدام المخزن الأوفياء.
تعليقات
0