بقلم: عمر دغوغي الإدريسي سجلماسة بريس | Sijilmassapress
المحور الرابع: إشكالية اقتصاد الريع منذ انتهاء فترة الحماية
أولا: وضع القطاع الزراعي وملكية الأرض الزراعية في المغرب بعد الاستقلال:
لم تعمل الهيمنة الرأسمالية الاستعمارية الفرنسية على تحويل المجتمع المغربي من مجتمع متخلف ما قبل رأسمالي إلى مجتمع رأسمالي حديث، بل حاول الإبقاء على نفس البنيات المتخلفة للمجتمع التقليدي، لأن هذه البنيات تمكنه بشكل أحسن من انصياع الشعب المغربي لرغبات المتربول الاستعماري،فإعادة إنتاج التخلف أصبح شرطا ضروريا لاستمرار هذه السيطرة.
من هنا يمكن القول بأن العائق أمام التقدم الاقتصادي والاجتماعي في المغرب لم يعد يتمثل فقط في البنيات التقليدية السابقة على الرأسمالية، بل يتمثل أيضا في الرأسمالية الاستعمارية التي تضيف قوتها الجبارة إلى قوى أساليب الإنتاج القديمة، وعلاقاتها الإنتاجية، وفئاتها الرجعية المسيطرة.
لذلك كان التحدي الذي واجهته القوى الوطنية هو التخلص في نفس الوقت من بنيات التخلف التقليدية والسيطرة الرأسمالية المتنامية.
لكن الصراع السياسي الذي نشب غداة الاستقلال بين القوى الرجعية المحافظة على البنيات الموروثة عن عهد الحماية والقوى التقدمية التي تتطلع إلى تأسيس دينامية تطورية تقوم على مشروع مجتمعي تنعدم فيه الفوارق الطبقية وتجند فيه جميع القوى من اجل مغرب ديمقراطي اشتراكي مستقل، حسم منذ البداية لصالح القوى الأولى نظرا لعدم تكافئ القوتين، ولتدخل القوى الإمبريالية لمساندة القوى الرجعية في صراعها ضد القوى التقدمية. وبطبيعة الحال كان الصراع دمويا دام عدة عقود ووصفه أغلب المراقبين بسنوات الرصاص.
لقد ظل الطابع العام للمغرب غداة الاستقلال هو غلبة الطابع الزراعي على سكانه، فقد شكل سكان البادية سنوات 1971 و1982 و1994 على التوالي 64,8 % 57,3 % 48,6 % ويمكن إرجاع هذا التراجع التدريجي لساكنة البادية إلى كثافة الهجرة القروية نحو المدن أوفي اتجاه الخارج.
ولا يزال المغرب يعتبر أكثر بلدان المغرب العربي زراعة سواء كان ذلك بالنسبة إلى مساحة الأراضي الزراعية أم بالنسبة إلى العاملين في القطاع الزراعي، وقد بلغت مساحة الأراضي القابلة للزراعة سنة 1998 ما قدره 9.238.000 هكتار ، كما أن عدد السكان الذين يمارسون نشاطا زراعيا بلغ سنة 1998 52 % مقابل 48,1 % من اليد العاملة في المدن .
بيد أن النصيب الذي يمثله هذا القطاع الاقتصادي في تركيب مجمل الناتج الداخلي ضل متواضعا بل متراجعا بحسب الجدول التالي الذي يقدم لمحة عن تطور الإنتاج الفلاحي في المغرب مقارنة بالناتج الداخلي الإجمالي.
إن حصيلة القطاع الزراعي ضلت متواضعة على الرغم من الأهمية التي أولتها له مختلف المخططات الاقتصادية منذ بداية الاستقلال فقد بلغت تكاليف التجهيز خلال الفترة بين سنة 1957 وسنة 1966 ما لا يقل عن ثلاثة مليارات درهم إضافة إلى مبلغ 1,1 مليار درهم لمواجهة التكاليف الإدارية للتنمية الزراعية،كما تم تخصيص مزيد من نفقات التجهيز الزراعي في المخططات الاقتصادية المتعاقبة:
1.549.702.000 درهم خلال الخطة الخماسية 1968 – 1972 ،
2.251.901.000 درهم خلال الخطة الخماسية 1973-1977
5.511.961.000 درهم خلال الخطة الثلاثية 1978-1980 ،
ورغم كل ذلك لم يتمكن المغرب من تحقيق معدل نمو يزيد عن 1,5 % سنويا خلال السنوات الأخيرة، وهو يساوي ما يقارب نصف محصول الزيادة في السكان سنويا.
ويفسر عدم التكافؤ بين المجهود المبذول والنتائج المتحققة في هذا المجال بأن القطاع الزراعي في حاجة إلى إصلاح عميق الجذور يضمن إعادة توزيع الملكية الزراعية.
ونشير إلى أن الملكية الفردية للأرض لم تكن السبب الرئيسي لسوء استغلال الأرض أو فقر المشتغلين في الزراعة، فالملكية الخاصة للأرض قد لا تكون معيبة في ذاتها، وإنما العيب في أنظمة المجتمع التي تسمح لأفراد معدودين أن يمتلكوا المساحات الكبيرة منها وتدع الكثرة الساحقة من الأفراد محرومة من التمتع بها. وهذا ما جرى في المغرب خلال القرون الطوال الماضية وخاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين حيث استحوذت على معظم أراضيه الزراعية فئة قليلة العدد من الحائزين أو المالكين، ومعظمهم من الإقطاعيين والرأسماليين وكبار رجال الدين.
ورغم ما حضي به القطاع الفلاحي في المغرب من أولوية والتي فرضت عليه فرضا في إطار التقسيم الدولي للعمل انطلاقا من مؤتمر الجزيرة الخضراء ودخول الاحتلال الفرنسي إلى البلاد في بداية القرن العشرين، إلا أنه ظل عاجزا عن المساهمة في تحقيق حد أدنى من الأهداف التنموية المخصصة له، والمتمثلة على الخصوص في تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية للسكان، وتوفير المواد الخام للصناعة، وتوجيه فوائض من المنتجات الفلاحية نحو التصدير إضافة إلى ما يمكن أن يولده هذا القطاع من مداخل للمشتغلين فيه.
وفي غياب إصلاح زراعي جذري ظل عدد من المعوقات الاقتصادية والاجتماعية المعروفة تقف أمام تطور الإنتاج ألفلاحي بالمغرب،وتتمثل أهم هذه المعوقات في تفتت مساحات الأراضي وبعثرة وسائل الإنتاج إضافة إلى تخلفها التكنولوجي.
وتكرس هذه المعوقات عدد من البنيات المنحرفة ، كازدواجية القطاع ألفلاحي، وتعدد الأنظمة العقارية وتفتت ملكية الأراضي الفلاحية.
ثانيا: الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للسلطات العمومية
تؤكد الشواهد التاريخية التي أتينا على ذكرها في المحور الثاني كيف تغلغلت ثقافة الريع وأصبحت هي السائدة في بلادنا وذلك بالموازاة مع الهيمنة السياسية والاجتماعية، ثم كيف اندمجت السلطة بالريع فأصبح الواحد يغذي الآخر في علاقة جدلية، ويغذيان معا تخلف السلطة والمجتمع.
كما رأينا في المحور الثالث كيف دخل على هذه العلاقة الجدلية بين السلطة الريع الاستعمار الفرنسي والذي لم يتجاوزها بل أدخل عليها نمط الإنتاج الرأسمالي، وهو ما أعطانا نموذج مغربي فريد في مجال تدبير الاقتصاد الرأسمالي، عقب خروج الاستعمار المباشر سنة 1956 وتأسيس رأسمالية الدولة التبعية. فالدولة الموروثة عن عهد الحماية ستظل تخضع في تدبيرها الاقتصادي والسياسي لنفوذ الرأسمال الدولي والدوائر السياسية الامبريالية، ونلمس هذه الجوانب من حيث خضوع الأداء الاقتصادي لتعليمات المؤسسات المالية الدولية وبناء اقتصاد موجه كلية نحو الخارج، أما على المستوى السياسي فنلمس هذه التبعية من خلال المواقف المنحازة كلية لما تمليه الامبريالية على بلادنا.
في مواجهة متطلبات اكراهات الاقتصاد الرأسمالي التبعية الجديدة، وفي ظل غياب طبقة رأسمالية تمتلك ما يكفي من رؤوس الأموال وما يكفي من الخبرة في مجال التبذير الرأسمالي، ومن أجل مواجهة الاختيارات السياسية الاشتراكية أواخر عقد الخمسينات حيث كانت على رأس قائمة جدول أعمال السياسيين في مختلف بلدان العالم الثالث، اختار التحالف الطبقي الحاكم الالتفاف في بداية عقد الستينات على التوجهات الاجتماعية الديمقراطية ممثلة في حكومة عبد الله إبراهيم وإقرار توجه ليبرالي رأسمالي تحت رعاية الدولة وتدخلها الواسع.
من هنا يمكن تقسيم الفترة الممتدة من بداية عقد الستينات إلى الآن إلى مرحلتين تتعلق المرحلة الأولى بالفترة السابقة لعقد الثمانينات بينما تنطلق المرحلة الثانية من بداية عقد الثمانينات.
طبيعة اقتصاد الريع قبل عقد الثمانينات
ان رصد تطور اقتصاد الريع ابتداء من عقد الستينات الى أواخر عقد السبعينات ينطلق من الريع المرتبط بحجم تدخل الدولة، ففي ظل غياب طبقة برجوازية تمتلك المعرفة ورؤوس الأموال تم الاستعاضة عن ذلك بتدخل واسع للدولة عبر قطاعها العمومي في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وانطلاقا من الهيمنة البيروقراطية والتقنوقراطية الواسعة لموظفي الدولية على الوحدات الإنتاجية تطور الشكل الجديد لاقتصاد الريع والمندمج بالأداء الاقتصادي الرأسمالي، ويمكن إعطاء بعض الأمثلة عن أشكال الريع الجديدة:
الريع المرتبط بالمنصب:
العديد من موظفي الدولة الكبار وجدوا أنفسهم يحتلون مواقع اقتصادية إستراتيجية تدر عليهم الملايير ويصبحون بين عشية وضحاها من كبار أثرياء المغرب. فتحمل المسؤولية مثلا في وزارة التجارة والصناعة مثلا وإشراف هذه الوزارة على منح أذونات الاستيراد والتصدير وأذونات تجار الجملة وصفقات توريد وتوزيع المواد الأساسية جعل الكثير من المسئولين يستفيدون من موقعهم في متراكمة رؤوس الأموال بطرق شتى عبر شبكة من علاقات الزبونية،فمثل هذه الموال المتراكمة هي عبارة عن ريع مرتبط بالمنصب.
والأمثلة كثيرة ومتعددة تكتسح مختلف القطاعات، الوزارية والمؤسسات العمومية، فكل موقع للمسؤولية ينتج أنواعا متعددة من الربوع المرتبطة بالمنصب.
الريع المرتبط بالمشاريع العمومية للدولة:
جميع المشاريع العمومية الكبرى المنجزة خلال عقدي الستينات والسبعينات لم تكن تستند على دراسات مفصلة للجدوى الاقتصادية، لذلك كانت هناك مبالغة في تقدير كلفة المشاريع العمومية، وفي ضبابية مكونات هذه المشاريع. وبطبيعة الحال فإن المشرفين على هذه المشاريع كانوا يستخلصون منها فوائض مالية هائلة، تتحول إلى رؤوس أموال خاصة والى استثمارات رأسمالية خصوصية.
الريع المرتبط بالاقتراض الخارجي:
جميع المشاريع العمومية الكبرى كانت تمول مبدئيا بواسطة الاقتراض الخارجية والتي تصبح مديونية طويلة المدى تسددها الطبقات الشعبية لمدى سنوات. فهذه الاقتراضات الخارجية كانت تولد ريعا متعددة الأشكال، سواء لدى المشرفين على المشروع أو لدى لأبناك التي تشرف على تحويل عملة تلك الاقتراضات بالإضافة إلى الريع الطويل المدى الذي تتمتع به المؤسسات الاقراضية الأجنبية، علما أن تسديد هذه الاقتراض يتم من خلال اقتطاعات الضريبة من عرق جبين الطبقة العاملة.
الريع المرتبط بالمضاربة العقارية:
المعلومات التي قد تتسرب من أجهزة الدولة إلى الملاكين الكبار والمضاربين حول مشاريع التهيئة أو استصلاح الأراضي أو توسيع المدار الحضري تدفع هؤلاء الى الإسراع بتملك مواقع عقارية إستراتيجية باثمنة بخسة وسرعان ما تصبح مواقع تدر الملايير على أصحابها.
رخص النقل والصيد في أعالي البحار ومقالع الرمال والمناجم وبيع الخمور بطبيعة الحال لا يمكن لأي كان أن يحصل على مثل هذه الرخص، لذلك من المرجح أن يتوفر الحائزين عليها على ميزات خاصة، فهذه الرخص تدر على أصحابها …. يتبع
تعليقات
0