بقلم: عمر دغوغي الإدريسي
بقطع النظر عن تباين أشكال الأنظمة السياسية في الوطن العربي يبدو أن نقطة الالتقاء الأساسية تتمثل في سؤال الديمقراطية التي تعد ليس فقط نموذجا نظريا لضبط نطاق الفعل السياسي بل كذلك إطارا جامعا لفلسفة الحكم ومنطلقات التدبير.
وإذا كانت التنمية في البلدان العربية لا تزال مطلبا وغاية، فإن ركنها الأساسي يتمثل في سندها السياسي والعقائدي المجسد في أعمال الديمقراطية كأساس تنموي إستراتيجي. وهو واقع ما انفك يراوح مكانه في الوطن العربي الذي لم يحسم أي من مكوناته بعد في الديمقراطية نهجا وتمثلا.
وفي هذا السياق، يعن موضوع الفعل الحزبي في المغرب كمثال شاخص عن مسألة الديمقراطية ليس فقط كإشكالية متصلة بتضارب التصورات وتباين المتمثلات واختلاف أشكال التفعيل بل كذلك كصيرورة ممتدة تاريخيا ومؤسساتيا.
يظل التساؤل عن الحزب السياسي في المغرب بالأساس تساؤلا عن طبيعة النظام السياسي، إذ لا يمكن منهجيا تحليل مواطن الخلل في الفعل الحزبي أو مظاهر التعثر في الممارسة الديمقراطية داخل البناء الحزبي دون استقراء الأساس الإستراتيجي المهيكل لهذا السلوك متمثلا في جوهر السلطة السياسية.
فالاختلاف حول مضمون السلطة السياسية وصيغ الوصول إلى ممارسة تكتسي بعدا ديمقراطيا، والتباين حول الاختيارات الإستراتيجية في مغرب الاستقلال ظلت عقبات متواترة في تحقيق التوافق السياسي بشأن المنطلقات والأهداف ومن خلالها الوسائل والآليات، مما تولد عنه توتر مستمر بين مكونات الطبقة السياسية تبعا لمراحل تطورها وترتيبا على طبيعة تفاعلاتها.
وشكلت طبيعة السلطة السياسية في هذا الخضم محددا محوريا في تطور الحياة السياسية في المغرب، إذ لا يقابل تصورات المعارضة الحزبية لآليات تحقيق الديمقراطية إلا تمثل الملكية لدورها المركزي في تحديد قواعد اللعبة السياسية وضبط المجال السياسي بشكل يجعل السلطة السياسية مغلقة في حقيقتها، لاتصالها بآليات لإضفاء الشرعية ترتكز على البنيات التقليدية للحكم في محدداتها التاريخية -التراثية والسياسية الدينية التي ترتهن بها أشكال “التحديث السياسي” في إطار مفهوم الملكية الدستورية الذي لا يمكن استحضاره إلا داخل النسق السياسي المغربي ووفق الضوابط التي حددت معالمها المؤسسة الملكية في سياق تعاملها مع المسألة الديمقراطية.
يمكن في هذا الصدد الارتكاز على محددين محوريين يتجسدان في مركزية المؤسسة الملكية وتمثل الوظيفة الحزبية.
مركزية المؤسسة الملكية دستوريا وسياسيا:
تنطلق الملكية في تصورها لمكانتها الدستورية من اعتبارات
تتجاوز المنطوق الدستوري لتستحضر جوانب مستمدة من الثقافة السياسية السائدة
اعتمادا على شرعية تقليدية تمزج بين الدين والتاريخ.
وعلى هذا الأساس تتجه الملكية إلى الدلالات الدينية لتوظيفها في خطابها السياسي قصد تأكيد سموها السياسي الدستوري، معتبرة أن أمر الحكم في المغرب يتصل برابطة بين الملك وشعبه.
وبصرف النظر عن الاختصاصات الكلاسيكية لرئيس الدولة يبدو أن المكانة السياسية الدستورية للمؤسسة الملكية تحتل موقعا مهيمنا في الهرم الدستوري برمته، كما يجسد ذلك الفصل التاسع عشر الذي ينص على أن الملك هو ” الممثل الأسمى للأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور.
وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات،وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.
وإذا كان الفصل التاسع عشر من الدستور مفتاحا مبدئيا لتبين مركز المؤسسة الملكية في البناء الدستوري، فهو يجسد أيضا المنطلقات العقائدية الكبرى التي تراهن عليها الملكية لإدارة دفة الحكم في البلاد دون أن تكون سلطتها محل نقاش أو موضع تقليص فعلي بمناسبة المراجعات الدستورية الأساسية لسنوات 1970 و1972 و1992 و1996، علاوة على أن الملكية تتوفر دستوريا على سلطة كبرى في مجال التعيين.
وتعتبر الثقافة الرعوية مناط تمثل النظام التقليدي أو “النظام ألمخزني” لعلاقته بالمجتمع وأيضا بالطبقة السياسية التي تتحول إلى دعامة إسنادية بدل أن تكون طرفا وازنا في القرار السياسي الذي يستحيل بذلك إلى قرار شبه مغلق، كما تتحول العلاقة بين الملكية والشعب إلى ارتباط عضوي لا يحول دونه حائل بما في ذلك المنظمات الوسيطة وفي مقدمتها الأحزاب السياسية.
تمثل الوظيفة الحزبية:
تثير إشكالية مكانة الحزب في النظام السياسي المغربي
لزوما الوضعية التي سطرها المشرع الدستوري للمؤسسة الحزبية ترتيبا على الاختيارات
الإستراتيجية للنظام من جهة، وطبيعة الرهانات المتصلة بالأحزاب السياسية في المجال
السياسي الوطني مرحليا وإستراتيجيا من جهة ثانية.
فقد جعلت الملكية من التعددية الحزبية مبدأ دستوريا ثابتا يلخص مراهنتها على واقع سياسي تعددي ينسجم مع طبيعة المؤسسة الملكية الحاكمة والتحكيمية أولا، ويجسد “الانتصار” السياسي الذي حققته الملكية في صراعها المضمر أو المكشوف مع المكونات الحزبية التاريخية.
وتجد التعددية الحزبية في المغرب ترجمتها الدستورية في البند الثاني من الفصل الثالث من الدستور الذي ينص على أن “نظام الحزب الوحيد غير مشروع”، كما أن الفصل التاسع يشدد في بنده الثالث على حرية جميع المواطنين في تأسيس الجمعيات والانخراط في أي منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم.
وعلى مستوى التمثيلية يلاحظ أن الدستور المغربي ترك الباب مشرعا دون أن يربط التمثيلية الحزبية للمواطنين بالمسلسل الانتخابي.
فتعامل الملكية مع الأحزاب السياسية لا ينطلق بالضرورة من مبدأ الاقتراع أو مدى تمثيلها لقاعدة انتخابية معينة، كما أن الحياة السياسية المغربية منذ الاستقلال عرفت فترات لم يكن فيها للانتخابات أي موطئ قدم، ومع ذلك تعاملت الملكية مع المكونات الحزبية انسجاما مع تقييمها الخاص لمكانة كل حزب على حدة ولثقله السياسي.
وترتبط الوظيفة التمثيلية للأحزاب في مقام آخر بمهمة تأمين الوساطة داخلة النظام السياسي.
وهو ما لا ينسحب من منظور الملكية على منطق النسق السياسي المغربي الذي لا يقر بأي وساطة بين الملك والشعب خاصة أن “التمثيلية العليا” باتت مجسدة دستوريا وسياسيا في المؤسسة الملكية.
وظل الحقل السياسي المغربي مشوبا بانحصار بنيوي بدءا بالمستوى الدستوري ووصولا إلى المنافسة السياسية التي استمرت مجالا مطلبيا للأحزاب التاريخية أو المتوقعة في خانة مطالبة النظام.
وهو واقع انعكس جوهريا على طبيعة الممارسة الحزبية التي وسمت بمختلف أشكال رد الفعل ضمن نسق مغلق أو دائري يعيد إنتاج نفسه دون أن يساءل ذاته أو يعيد تشكيل توازناته وفق منظور إستراتيجي أو انطلاقا من تصور براغماتي يوازن بين طبيعة النظام ومتطلبات الفعل الحزبي الطبيعي.
بقراءة الممارسة الحزبية في المغرب على الأقل إلى غاية تولي الملك محمد السادس الحكم سنة 1999 يتجلى محددان مركزيان في فهم الآليات المتحكمة في السلوك السياسي للأحزاب المغربية، وهما محدد العمل في سياق سياسي عام مأزوم ومحدد الانكفاء التنظيمي.
هيمنة سياق الأزمة:
تكمن الإشكالية المركزية في المغرب السياسي منذ الحصول
على الاستقلال في التوفيق بين واقع الملكية الحاكمة وتحقيق الديمقراطية كما هي
متعارف عليها في المنظومة المرجعية.
إذ إن التلازم بين الواقع الأول والمطلب الثاني يكتسي بعدا تنازعي لا جدال فيه، وظل بالنتيجة السمة المهيمنة على المشهد السياسي الأيديولوجي في المغرب حتى في فترة ما اصطلح عليه بحكومة “التناوب التوافقي” ما بين مارس/آذار 1998 وأكتوبر/تشرين الأول 2002.
ومما يسترعي الانتباه في هذا الشأن هو اتسام الحياة الحزبية المغربية بالدوران موضوعيا وذاتيا حول المؤسسة الملكية، إما تفاعلا أو تجاذبا أو تصارعا بشكل حول الممارسة الحزبية إلى رد فعل مستمر إزاء الملكية وخصوصا إزاء تطورات الحقل السياسي والدستوري الوطني.
وبتجاوز انتخابات 27 سبتمبر/أيلول 2002 التشريعية التي اتسمت بنوع من التزكية الضمنية أو الصريحة من قبل الأحزاب الستة والعشرين التي شاركت فيها وأسهمت نسبيا في بلورة بداية الشرعية الديمقراطية، يمكن إخضاع الفترة السابقة لنوع من التصنيف والترتيب المستساغين منهجيا لفهم بعض تجليات هيمنة منطق وسياق الأزمة على مجمل الممارسة الحزبية.
وهو ما يمكن الوقوف عليه نسبيا من خلال معطيين متداخلين يتمثلان في أزمة المنافسة السياسية وتشرذم المشهد الحزبي.
بالوقوف على جوهر السلطة السياسية في المغرب يبدو جليا أن المؤسسة الملكية جعلت نفسها فوق المنافسة السياسية مع كونها محور كل العمليات السياسية، فالملكية تؤكد طابعها “القدسي” باعتبارها “مؤسسة المؤسسات.“
وترتيبا على المنطق نفسه يلاحظ أن الأحزاب السياسية المغربية خاصة منها تلك المصنفة نظريا على الأقل في خانة المكونات القادرة على التأثير تجد نفسها مسجية بالتصور الأبوي للسلطة السياسية الذي يجعلها حتما خارج المنافسة السياسية.
ويتأتى القول بأن سياق التعبئة حول الصحراء المغربية منذ 1975 نجح في التخفيف من حدة انعدام التراضي السياسي بين الملكية والمعارضة كما تجسد عبر انخراط الجزء الأساسي من الحركة الوطنية في المسلسل الانتخابي والإطار المؤسساتي الرسمي وفق الترتيبات الإستراتيجية للنظام.
وعمدت الملكية في التسعينيات إلى بلورة توازن جديد تمثل في طرح ما وصف بـ”التناوب التوافقي” الذي قام على أساس إشراك المعارضة التاريخية في العمل الحكومي كطرف مركزي مع تعيين وزير أول من بين صفوفها ممثلا في الكاتب الأول الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي.
وهي تجربة دامت أربع سنوات ما بين مارس/آذار 1998 وأكتوبر/تشرين الأول 2002، وأسهمت في بداية القطيعة مع منطق الاستمرار الحزبي في مواقع محددة سلفا داخل المؤسسات.
كما اتسمت الحياة السياسية في المغرب بأزمة مستحكمة على صعيد البناء المؤسساتي تجد أبرز تجلياتها في غياب انتخابات محسومة ومعترف بها منذ عام 1963، وهو ما شكل عقبة أساسية أمام تحقيق التراضي السياسي والحسم في قواعد ما يسمى المسلسل الديمقراطي.
ومع ذلك يمكن الذهاب بالرأي إلى أن انتخابات سبتمبر/أيلول 2002 التشريعية شكلت في مؤداها تطورا لا يمكن تجاهله، إذ أتاحت توضيح جملة من المعطيات السياسية وأسهمت نسبيا في إعطاء الفعل الانتخابي مدلولا معينا يمكن اختزاله في تجاوز المأزق الانتخابي في مظاهره المعيبة التي تجد سندها في بنية التزوير.
تعتبر الديمقراطية الداخلية البعد الغائب في الممارسة الحزبية المغربية رغم أن جميع الأحزاب تعطي الانطباع بنسب متفاوتة على حرصها على تفعيل قوانينها الداخلية وممارسة نشاطها السياسي وفق الضوابط التنظيمية وترتيبا على هاجس سلوك سياسي يوصف بالديمقراطية الداخلية.
والواضح أن تبريرات اللجوء إلى تأسيس أحزاب جديدة انبرت جلها إلى طرح غياب الديمقراطية الداخلية أو البحث عن فضاء تنظيمي أرحب يؤمن بالتعددية أو إتاحة مجال متطور للفعل السياسي كمحددات محورية للوجود على الساحة السياسية.
غير أن هيمنة البحث عن موقع وازن شكليا على الأقل داخل النظام غيبت عمليا البحث عن السبل الإجرائية لإعمال الديمقراطية الداخلية على المستوى الحزبي خاصة وأن الأهداف تتباين ترتيبا على المنطلقات.
وإذا كانت الأحزاب التابعة للمصالح الإستراتيجية للنظام تغض الطرف عن الدينامية التنظيمية، فإن واقع حال الأحزاب المصنفة ضمن الحركة الوطنية أو اليسار الإصلاحي أو حتى اليسار الجذري تجد نفسها منتجة لسلوك يبتعد في جوهره عن إعطاء أي مدلول للدينامية التنظيمية أو الديمقراطية الداخلية.
ويلاحظ في هذا الخضم استمرار منطق الزعامة وإنتاج وإعادة إنتاج نموذج “الشيخ والمريد”، كما أن التجربة الحزبية المغربية لم تنتج البتة أي تحول في الزعامة أو القيادة الحزبية خارج الانشقاق الفوقي، أي في ظل غياب الحركية التنظيمية بشكل تتحول معه الممارسة الحزبية إلى ممارسة قيادات أو سلوك نخبة دون أن يكون للقاعدة الحزبية أي دور حقيقي في صياغة القرار خاصة القرار الإستراتيجي الذي يسم حياة الحزب وموقعه في الخارطة السياسية.
وتعتبر تزكية الشخصيات الحزبية في مواقع المسؤولية على العموم نتاج السلطة التقديرية للزعيم أولا وللقيادة ثانيا ضمن نسق لا يختلف جوهريا عن النسق العام للنظام، أي وفق منطق العلاقة الشخصية أو الارتباط العاطفي للتيار السائد داخل الحزب أو العائلي -خاصة في المناصب الوزارية- في تجاهل شبه تام للاستحقاق ببعديه الحزبي السياسي والتقني الموضوعي، وهو ما يؤثر بداهة على التوازن الداخلي للأحزاب ويحولها إلى مكونات قابلة للتشرذم.
وفي ظل غياب المد الديمقراطي الضروري على مستوى الممارسة الحزبية ينتقل الفعل الحزبي إلى ممارسة مصلحيه ترنو إلى المناصب والمراكز وتنشد المواقع دون أن يكون لذلك أي تأثير على مستوى العمل السياسي العام، وكأن الأمر متعلق بجماعات ضاغطة محدودة أكثر منها هيئات سياسية عامة.
اقرأ أيضا: عامل الحسيمة يوجه تحذيرات شديدة اللهجة للمقاولات المكلفة بإنجاز مشاريع منارة المتوسط
سجلماسة بريس / sijilmassapress
تعليقات
0