المسرح بين المركز والهامش: فدان الغربة أنموذجا

لينا بريس

سجلماسة بريس

إن هذا العنوان يحيلنا إلى تعددية القراءات التي تتحول إلى أنوية نصية متنوعة ومتصارعة، إذ يسعى القارئ إلى إعادة تفكيك هذه اللغة الذي تعتمد التكشيف والتحويل، ليؤسس صياغتها كثنائيات مجازية وتحديدات ألسنة (دال/مدلول)، لأن التكثيف، والتحويل جعل هذه اللغة الرمزية تنقلت من الرقابة وبالتالي الانتقال من الدال إلى المدلول، فالمسرحية “فدان الغربة لا تتحدد كمركز للرغبات والانتظارات وإنما كبؤرة للإبداع الاحتفالي الذي يتمظهر عبر لغة جمالية وإيحائية هادفة، لها بناؤها المتماسك.

إن هذا البعد الإيحائي يتأسس على ضرورة الإقرار بالوظيفة الجمالية والفنية لهذا العنوان، ولبناء شعرية بمختلف أصنافها وأشكالها، فالعنوان هو الفضاء الذي شكل نضال المؤلف وخيالنا، ويقول غاشون باشلار Bochelard: “علينا أن ندرس الإشكالات المرتبطة والمتعلقة دوما بالخيال وبالصورة الشرعية”(1). فالمسرحية في تخريجاتها أبدت استعدادها لعرض قضية المجتمع الإنساني من خلال هدم العقل المتمركز حسب تعبير غاشون باشلار G. Bochelard(2)، لأنها لا تكتفي بالجواب الأحادي الجانب، بل تتطلع إلى جواب يضعنا أمام تقلبات العالم الغربي المتحرر، والعربي المعاصر بكل أبعاده الابستمولوجيا والنفسية والحضارية حيث نقول “وكيف نعود إلى اليقظة” في هذه المسرحية.

فهذا التفكير بالصحو جعلتها تبحث عن وظيفة مرجعية، ومعرفية للغة الإبداعية التي تتمظهر عبر الخطاب الجمالي، لأن استعمالها لصيغة النفي له كتوظيف استعاري جديد، يعكس البعد الحفري في جدارية، الذي يعكس البعد الفكري في جدارية السؤال وكذلك يعكس حجم الحدود التي يضعنا بين نية العقل الكلاسيكي والقراءة المفتوحة. التي تعتمد المنهج الموضوعي. كمنطلق لتأسيس ميتافيزيقيا الخيال والدينامية المباشرة.

والمؤسسة للغور في الفنية والجمالية، فالعلاقة التركيبية بين المسرحية بباقي الشخصيات، أتاحت لنا فرصة  الإدراك الدرامي الذي غلف المسرحية بلون إحساسي جمالي، وببعد ايروتيكي غير مسيج، وهذا الإحساس كما ذكرت خلق البعد الغرائبي أيضا في فصول المسرحية، مما أعطى للشخصيات نوعا من المساحة المكانية واللغوية لتطرح الأسئلة الجوانية كبعد وجودي، وكإرادة مطلقة لا تنتمي إلينا، وإنما هي مفتوحة وقابلة للتأويل، وفاتحة لنهاية قادرة على مزج بين الظاهر، والباطن وداعمة لكل أسس دراماتيكية جذابة تثري المتلقي كجسد وروح وتضفي عليه طابع التواصلي نصا لمسرحية التمسرحية.

تحكي ولا تحكي، تثير الأسئلة بلا أسئلة، وتخلخل المألوف، وحضور الأتي في الأني، وتكسر للمنفي بالضرورة بالمشاهدة، وتقرب للعالم المعولب في شكل خرجات فنية، بصرية وهذا لا يتأسس إلا بالجسد الذي يملك لغة، ورؤية، وإحساس، ووجود، وفكر، ومعرفة، حيث يقول روجي دادون “إن الجسد هو هذا الحجم الوافعي والكلي المجزأ في المكان، هو هذه البنية المادية المرئية القابلة للمس، ذات الترتيب المعقد …”.

إن هذه المقاربة هو البحث إمكانية الحديث عن وظيفة الجسد في هذه المسرحية، لأن وظيفة المسرحية هي احتفالية التي تتجسد كتجليات التي تمتلك بعدا جماليا، حيث يتأسس عبر لغة درامية متجانسة وكذا من خلال إشكالية الكتابة الركحية، حيث تقر هذه المسرحية بهذه الوظائف الإنسانية المعقودة(3)، لأنه العالم المحتمل جميل قبل أن يبني كحقيقة فعلية، لأن بواسطة الشخصيات التي تتأمل هذا العالم الآخر، بكل أمكنته وأزمنته قصد معرفة الذات المستلبة، أو بالأحرى خطابها المفقود، فالبحث عن المفقود في هذا العالم هو بالضرورة يدفعها إلى القطع مع المعرفة اليقينية البسيطة والتشبث بالدهشة الحوارية وبالملاحظة التلقائية، فهذه الوصفات الإيحائية اللامتناهية هي تجسيد للكون، والموت والحياة، وخلق للإدراك، والتغيير، لكونه العالم الإنساني المتعالي لا ينبغي أنه يستوعب أحزان من الأصنام، أو كأصوات، بل كأعماق تدرك معنى الأشياء والعالم، وتبعث الظلمة في انتصار، وتقض العدمية كمعنى في المعنى الإنساني.

فهذه الشخصية تحمل داخلها اللامتناهي بجميع الأشياء والإنسان، والموت، والحياة، والغضب، والنماء، يبعدنا عن القناعة وعن القيم الماضوية لكي تدرك الأشياء بتهذيبها، وتشكلها كلحظة بين الجسد كشيء كإنسان، فالوعي يعقلن المطلق بلسان ينشد الحرية، ويعلق الكينونة الإنسانية بطابع مثالي، إذن فالمسألة ليست سهلة المثال، بل تتطلب الدربة والممارسة الإبداعية التي لا تسيج الخيال، بل تبحث عن الحنان الوجودي المنعم بطابع حضوري لهذه الأجناس البشرية، لأن الفكر وليد عصره ومساهم في تأطيره، فإلى أي حد يمكن اعتبار هذا الجهد هو جهدا احتفالي وطقوسي.

فتعاسة الممثلين جعلت المسرحية تأخذ تصورا درمتكيا، لفهم العالم من حولنا، لأنه يثير في ذاكرتنا تداعيات كثيرة ومتنوعة ويجعلنا نتوقع ما ستحكيه هذه الاستراتيجية التي توقع قارئها النموذج، تأتي هذه المسرحية لتظهر لنا المتظاهرون يحملون المشاعل، ويلتفون حول الأحياء والأموات الذين يصعدان إلى السماء، فيختفي الضوء تدريجيا، بينما يرمي المتظاهرين كل الدمى خارج الركح فهذا الطرح يتفاعل مع خارج النصيبة باعتباره متوالية من العلاقات الرمزية تنتظر من المتلقي أو المتفرج أن لا يقف عند مكتبة النص، بل سيتنمر في فك كل المغالق النصية لطرح الأسئلة نتيجة التحدي السائد والمطروح، وتتيح تجاوز الصراعات الإيديولوجية إلى الاهتمام بكيفية استخدام الأخيلة بالأسطورة، والسرد، والتاريخ كبعد تحليلي يكشف عن التعامل مع المتخيل والمعقول، والأسطوري، ومع الماضوي والتاريخي، هكذا نحن إزاء نمط في الكتابة السردية الجديدة التي تعمل على تفكيك العوائق الذاتية للإبداع الجسدي كما تتمثل في عادات النقد، وأبنية اللغة الدرامية، وأجهزة الكتابة الدرامية فالمسرحية تمارس على جبهتين – اختراق الأسطورة، والتاريخ، واقتحام الزمان داخل المحتمل الذي يتنبأ به الممثل، من هنا يشعر القارئ بكشوفات المخرج حول عالمه المعاصر، وميله إلى عالم آخر يتعلق بالحصار لهذا الجسد فالمخرج يصف الإنسان، والعالم، كأيقونة تختلف باختلاف الشروط الاجتماعية، و النفسية، لأن الجسد الطقوسي هو جسد احتفالي يحيل على الجماعة بالشكل الذي يصبح فيه تعبيرا عما يعيشه الفرد، والجماعة، ويحضر هذا الجسد بوصفه لحظة تحبيبية متميزة، تنكسر في رتابة الحياة، وتتقوى الممارسات المقدسة، والحقيقية أن الاحتفال الكلي يكون دوما وأبدا من أجل حضور المخرج”(4). هكذا تتولى الأحداث وتختلف الرغبات والبناءات الفكرية والخيالية، ويتحول الحلم إلى دهشة للقاء بين الحاضر، والماضي وبين الشعور واللاشعور وبين الأسطوري الذي يمسرح عالمنا في شكل كتابة درامية.

إذن نستنتج أن السؤال هو سؤال الذاكرة ومحاكمة للغياب والإقصاء، إذن كيف يمكن قراءة المخرج الخمار المريني في تمسرحاته الركحية؟ وكيف يمكنه تحويل المطالب المعرفية والمنهجية، أو التحديث المسرحي من مجد اختبارها وانتظارات فجائية، إلى أفكار غير جاهزية فكرية التي تمتد نحو الآخر؟ وما هي المفاهيم الفلسفية الموظفة؟ وهل من يحمل الآخر / الممسرح ندعوه مخرجا مبدعا؟

إن المخرج بقدر ما يساهم في بناء قارة درامية، بقدر ما يخلق لعبة جديدة من الممكنات الإيداعية التي تستجيب لما هو عقلاني ودراما سيكولوجي.

لقد أكدت كتابته الركحية أن الفعل النقدي تحكمه بنيات نصية تتحرك داخله أنوية تمثلية هي بمثابة قواعد ومفاهيم إجرائية تعمل على فك مغالق النص الممسرح، حيث يرى عبد الرحمان بن زيدان: أن المنهج النقلي يعني أمرين اثنين: هما:

أ- ضبط الوسائل النقدية ودفع قواعد دقيقة لها،

ب- التبصر في الغايات التي يستهدفها النقد لفهم الظواهر الاجتماعية”(5) فهذا الخاصية القاعدية تفرز عناصر تغييرية في الرؤية الإجرائية لتتكيف مع القناعات الإيديولوجية ومع أنماط اشتغالها، من أجل بناء صيغ فنية مشرعنة قادرة على إمدادنا بمرجعيات تاريخية، وتعاقد مبني على الديمقراطية الاجتماعية(6). ولاشك أن هذا المنهج الاجتماعي المسرح هو وسيلة وغاية حسب المخرج، يضعنا أمام المجهول لكشف حجب العرض المسرحي وما يعتلي في مدارجه من قيم إنسانية ودرامية ويقول عبد الرحمان بن زيدان في هذا المصدر “إن المنهج مؤسس يساعد على ممارسة النشاط الفكري ببنية فكرية منفتحة”(7).

مفهوم الفاعلية الإخراجية عبد الخمار المريني

إن مقاربة الفاعلية النقدية عند المخرج أمر بالغ الأهمية بالنسبة للنظريات النقدية المعاصرة، لأن مكن من خرق المألوف، بتوليدات نقدية متنوعة، مما جعلنا نعيد النظر في هذه التوجيهات والتوجهات النقدية التي لامسناها في كتاباته التنظيرية والتمسرحية(8). فالخوض في هذا المناح، هو سؤال كينوني لا يبحث عن الجاهزية ولا يقف عند الفاعلية النقدية الماضوية، بل يخلق عائقا ابستمولوجيا يكسر الغريب، ويخالف السائد الذي يقف حجرة عثرة أمام المتلقي العربي. فهذا العائق لا يرتبط بالمتلقي، بل يرتبط بقناعة المخرج سواء كانت قناعة سياسية، أو فكرية أو جمالية، أو فلسفية، ويشمل أيضا كل الاحتمالات والصياغات القرائية التي تترجم مدى اهتمامه بشروط الفعل الاجتماعي، والوجودي الإنساني.

فعملية القراءة النقدية تهدف إلى جعل سؤال العالم الثالث وخاصة المقابر تنخرط في الأبعاد العالمية بكل أسئلتها ومفهمتها، وحجاجها، حيث كل واحدة من هذه القارات موجهة بمطلب واحد من مطالب تحليل ذاتها من الخارج بواسطة عقلانية نقدية، لا أن تنخرط في النزوات الذاتية المعطوبة، لكي تصنع تصورا جديدا للتاريخ، والفكر الجينيالوجي(9) لأن المركز، والهامش، التراث والحداثة، هو تأسيس المشروع النقدي العربي للهامش الذي هو إنتاج نظرية في المعرفة، حيث تكون مهمتها النموذجية والجوهرية لنقد نمط التفكير المغربي الساذج من أجل إبراز تصوره ومحدوديته، وتعويضه بنمط آخر أشمل وأبين، ولكن كيف يتم التعويض، والتغيير؟ فالخمار المريني سيستغني عن الطمأنينة التراثية، وعن قيود المضامين الحسية ليبني لنا نظرية تعتمد التراكم التاريخي، لا تقف عند “المعطيات التي  لم تعد فنا وعلما للتفسير والتغيير بل يمكن أن يتم الفهم والإفهام والحرية فيه كتمثل الاستثناء”. فالبدء اليقيني بما هو فكر انطلاقي جديد للنقد، أخذ الخمار على عاتقه مهمة تأصيل المسرح العربي في لون الحداثة، من أجل إيجاد بداية التي لا تتسم بالبداهة ولا التعليق، بل تتطلب الحرية، والوقوف على عتبة أرضية جديدة تطل على عالم الماهيات(10). وهذا التطور كما ذكرنا لا يقف عند تغيرات الأثار الماهوي ضمن مشروع التأـسيس الذاتي، بل حافظ على الدراما النقدية التي تثري الحدود، دون وصاية ولا سلطة رمزية، فتحريم الدائرة النقدية حسب الناقد تعني إخراج مجال النقد الدرامي ومفاهيمه من دائرة الوجود الممكن إلى دائرة الفعل المركزي الوجودي.

فالمخرج لا يقف عند الذاتية ولا الموضوعية، بل يتواصل مع الخارج بلغة ايروتيكية تفاجئ القارئ في عقر داره بانفلاتات فنية التي تحيل إلى محاكمة للأنا أفكر(11) إنها دعوة جديدة تعيدنا إلى عشق الأبدي كما عند بول ريكور وإلى كل الجنسانية والنوعية التي تضع التاريخ، والتراث، والذات، والكون واللغة، والوعي، والحس، والحدس، والعقل، والحرية فأمام تعذرات يصعب وضع حدود بين هذه المفاهيم، وهذا ما جعلنا ندرك سر القراءة المتنوعة، التي طرحت الإشكالات التاريخية، التي طالما واجهت الباحثين والمفكرين على السواء، وهذا الاختيار حسب المخرج هو الإشكال المعرفي الذي يحكم الواقع بمختلف طبقاته وملامحه التي تبلورت في النصوص الدرامية، وفي المناهج دون أن تحدث نزاعا عقلاني ذي علاقة مرأوية يقوم (خلالها الفكر باستخراج ماهية الموضوع الواقعي وبالتالي هي جزء من جوهر الدعوة حسب المخرج ورفض فضاءات المطابقة والمتصالحة مع الواقع، واليقين المنهجي الذي يريد أن يؤسس نفسه على المستوى الفكر المثالي ويدعو بالمجال الاختياري للتعويض ضمن ملاحقة الواقع بكل ترسباته، وتوجهاته، وبالفكر بكل جدليته لبناء موجودات جديدة وإنسانية مكرمة، حيث نحس بالحرية من أجل إقامة فن مسرحي، من أجل تحقيق ذلك في مناخ ديمقراطي في الفكر والسلوك والمؤسسات أيضا(12) فالمخرج باشر في عملياته نقد التراث المهمش الذي هو تغيير وتوسيع في المدارك المعرفية وإحلال أنظمة المسرح، وصولا إلى بناء عالم مسرح يكون أكثر فاعلية في إبراز الواقع الممكن، والتعامل مع المواقف والأحداث، وذلك بنظرة ليصبح فيها المعرفي هو المنهج والنسق لكل العمليات والقوانين التي تخضع لها عملية توالد هذه المشاعر الذاتية بعضها لبعض “ووعي من أجل الأرض حتى نزيل أعراض الأزمة(13). إن البحث عن الإبداع يحيلنا على مسألة اللغة الإيداعية الشاعرية التي تدلنا إلى معرفة المخرج وفحولته، ويحيلنا التأويل على التأويلات التي لا تقبل الانغلاق، والتفسيرات، بل كل ما يخلخل تجارب الانخراط في الانتهاءات التاريخية الجديدة. كمنطلق  بيداغوجي، وثقافي، وكمنطلق مقاربتي دلالي، لأن المعرفة الدرامية النقدية هي معرفة غير جاهزة، لا تتعلق بالواقع الطبيعي في فرديته ولا بوجود الزماني، ولا بالمنطق في خصوصيته، بل بالعودة إلى الأشياء للبحث فيها عن ما إذا كان فيها معارف وأنوية، وأحاسيس ما لم تنتبه إليه المعرفة”(14) لقد كان القبر هو الفكرة الموجهة لتأملات المخرج قصد تأسيسه كعالم يضمن الوحدة التأسيسية لكافة المعارف الدرامية بشكل عام. والمسرح بشكل خاص، فالغاية التي أفرزت هذه القراءة المقاربتية لدى المخرج، هي الرغبة في إعادة تأسيس قارة معرفية، ونظرية نقدية درامية على أرضية التوجه الفوكاوي، فالهاجس المسرحي لم يكن يمتلك قاعدة من المسلمات البديعية التي تستند إليها، وبالتالي كانت معرضة للسقوط في متاهات السكونية، والعودة إلى حضن التراث، لذا جاءت دعوته الصريحة لمواجهة التراث لمعرفة كيف يفكر ضد نفسه، والكشف أيضا عن التجريب والقوانين الفاعلية فيه، ويرى أن المسرحية تأسست على البحث عن الشرعية في الاختلاف، وانبنت أيضا على الانفتاح على نظريات الدراما، وعلى نظريات المسرح، لقد أدرك إذن أن التراث هو محط السؤال ليتخذ صورة علموية، تكون أكثر نجاعة لتحرر من دائرة (المؤلف، والنص)، لأن الأذن الناقدة توجد خارج فضاءها، فهو داخلها أيضا مادام يمارس مع المؤلف لعبة الكتابة والنبش الحضري في المهمش.

البعد الواقعي وتوليداته الغرائبية النقدية

إن تبلور النبش لدى المخرج، جعله يغوص في أعماق الكائن لاستكشاف حقيقة التاريخية، والطبقية والوجودية، والجدلية.

فالحضور المريني في الساحة الإبداعية، يجسد أفق السؤال لدى القارئ المغربي، حيث يشكل هذا الفهم، الجواب الجواني بصيغة التمرد ضد الكائن الذي ينام على أمجاد الماضية، ويرفع شعار القناعة كنز، لأن السؤال الكينوني يشكل جدلية فعالية في بناء فهم القارئ للمعرفة الدرامية، مع تحديد شروطه للحصول على تأويل جديد، والقادر على الانفتاح على ماهية السؤال “لماذا تخلفنا؟ ولماذا الاختزال الابستمي في تشكل مصطلح “الفكر ما قبل التأسيس العددي وهل العرب عرفانيين؟ تشطي المركز وبناء الهامش وأين نحن من هذا التهميش؟

إن هذه القراءة الجينيالوجية لهذا الباحث، تحيلنا بعض الوسائط المنهجية التي يضفي عليها الطابع التصديق، لأن المسار المعرفي المغربي لا يتحدد إلا انطلاقا من الآخر المهيمن، والصانع، والمبدع، على اعتبار أن المجال المغربي لا ينظم العلاقة بين الإنسان والواقع بشكل عقلاني، تواصلي، بل يقلق الذات بقيم نوستالجية ماضوية، مما يجعله يندمج في مسار المتناهي دون الدعوة إلى مفهوم البناء المجالي، فهذه الدعوة هي تكريس للسائد الغير القادر على محو اليقين، ولا الانتهاء الفيكتوري، لأن دور النقد ليس موضع المساءلة ولا المصالحة مع الواقع، بل هو تفكيك للمنتهي قصد معرفة اللامتناهي، وإحساس بالتاريخ الذي لا ينزل في شكل أرقام، ولا يتطابق، ولا ينبغي أن يختزل في شكل معارف، بل لابد من الارتباط بالمعرفة التاريخية، هذه المعرفة تتيح لنا إمكانية تعريف ما ضاع واسترجاع التقليد الغائب في شكل إشكالات، ومساءلة، حتى يصبح فعل المراجعة محاولة جديدة لهذا الفضاء العمومي الذي يتأسس عن الديمقراطية التواصلية، وكذا توفير شروط الإبداع لبلوغ الفهم، إن مشروع المسرحية تطبعها علامة متميزة كتفكيك وزرع الاختلاف في الائتلاف بوصفها التجلي الكلي في للحقيقة النقدية والتاريخية، وهي أيضا تتكفل بإبراز منفعة النقد وإيصالها إلى غايتها المتشودة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المخرج يظهر حقيقة الوجود النقدي المغربي لهذا العالم العلوي في شكل حقيقة الغياب / الحضور، والتصدير / التسويق المعرفي والأنا / والآخر، والمتخلف / والمتحضر، كلها ثنائيات لازالت تئن في المتخيل الإنساني العربي، دون البحث عن المفقود / الحاضر حسب جاك ديريداJ. Derrida.

فالحديث عن تاريخ السقوط للهامش هو البحث عن سقوط الإنسان المعرفي في ميثافيزيقية اليقين بكل تجلياته، وهذا الازدياد الانعزالي قياسا بتجلياته الماضوية، بحيث يتحول هذا الكائن المعرفي إلى مجرد موضوع قابل للتأويل والتفكيك، وإلى موضوع للكتابة خارج الدائرة المعرفية، إذن فتاريخ المهمش ينبغي التفكير فيه وبه، وفي كل تأويلاته داعيا إلى إعادة النظر في الإنسان. وفي المنهج، بوضعه استفهاما جديدا، ووضعا لبنيته الداخلية، هذه البنية نابعة من أسس التربة العربية، دون اللجوء إلى الغرب.

قد يتبادر إلى ذهن القارئ بأن المخرج أسقطنا في تناقضات عندما تناولنا التأويلات المتباينة بين الخمار والمريني وباقي أصحاب ما بعد الحداثة، أو ما بعد الكولنيالية، لأن المخرج لا يعتمد الثبات في التحليل، ولا الركون إلى أنماط التمثيل المطلق، حيث عمل على خلخلة استراتيجية الخطاب الكولنيالي في شكل وقفات تأملية تخضع للبرهان ولسيرورة التجاذب المعرفي والنقدي، ذلك أن فعل المغايرة هو الذي يعطي للصورة النقدية ضرورتها الجديدة وسيرورتها المتغيرة، تؤثر على الهامش / والمقصي ويقول هومي بابا HomiKbhabba “إن وظيفة التجاذب كواحد من أحلى الاستراتيجيات الخطابية والنفسية لدى القوة القائمة على التفرقة والتمييز سواء كان هذا التمييز عنصريا أو جنسيا هامشيا أم متروبولوجيا، هي وظيفة لا تزال بحاجة إلى التفصيل فيها”(15).

والمخرج يشق الطريق أمام وكلاء الحقيقة لتغيير الإنسان والمجتمع، وهذه القفزة هي قانون التفكير في المسار النقدي المسرحي المغربي الذي يتوفق أسطوريا ولا يملك حقائق عقلانية التي تكشف عن الانحدار الذي ظل يلوكه منذ ردح من الزمن(16) وأن المغربي المغترب على الدوام في بلده، يعيش في حالة من اختلال: … عقلي، يفقده الإحساس يجسده وربما أنه شعر أنه ميت”(17). وهذا التصور التكسيري راجع إلى أزمة الأسس الدرامية التي غض الطرف عنها وذلك بفعل الحجاج المقنع، ولكن الخمار وقف عند القضايا الاجتماعية والفكرية وعلى الصراعات الإيديولوجية، والمفارقات التداولية معترضا على القراءات الكلاسيكية التي لم تميز بين حقيقة الفعل الدرامي، والبنيات الطبقية التخييلية التي يحملها العرض المسرحي كخطاب فوقي، وككتابة مفهومية التي تبلورت في عهدنا كنموذج يحظى بسلطة مطلقة، كما أن الكتابة النقدية الإخراجية اتخذت أشكالا وأنواعا بديعية وسجعية، لم تستطع أن تحوم حول العلوم الإنسانية لتستوعب خصوصياتها المتنوعة، ولتبني صورة خالصة للقول الدرامي، إلا أن البداية السبعينية والتسعينية وما أفرزته من خطابات متنوعة وتحويلية وتداولية، غيرت وجه القراءة الإجبارية، وتغير معها الفعل النقدي خارج السياج المعياري، رابطا مسألة المعنى، والدلالة، والاجتماع والفن، والجمال كتأكيدات مشفرة توجه الاختلاف المنهجي لتتخذ الصورة الدرامية طابعا مشروعيا أنيا، تسمح للقارئ أن يتلذذ، وأن لا يغدو غريبا عن بلاده ولغته، وجنسه وهويته(18)، إذن لا يمكن للناقد المخرج أن يقف عند الهوية كما ذكرنا، ولا عند اعتباطية الدليل ولا التزامن المرفولوجي، بل انخرط في زمن ما بعد الحداثة، زمن يرحل بنا متقاطعا، وهو موسوما بالتعاقب، والتحقق الزمكاني، ليجعل التنوع سمة خصوصية ترسم لهذا المتخيل الدرامي سوسيولوجية، ونفسية وتاريخية كوظيفة جديدة، لتتزامن مع الراهنية المدنية والمعاصرة(19). إن فضاء التجربة الخمارية تجربة تضعنا بين اللغة الدرامية، والواقع الأسطوري والمتخيل، كأفق ابستمولوجي يضفي على الاختلاف كجماعة تخييلية تتوافق مع سؤال من نحن؟ وكيف، ولماذا، ويفصح عن اللاتجانس الثقافي بين المغرب والغرب بوصفها مفارقة غير متناغمة، تعتمد الإرادة التاريخية لتحويل الذاكرة إلى تاريخية جديدة.

إن التجديد الإشكالي لهوية المركز لا يتم إلا عبر التأجيل، لأن الذات الناقدة شتتت كل الألوان الموحدة للذاكرة والمطابقة للأمة والمجتمع لبناء خطاب متواري خلف السائد، فالتأجيل إذن تعطيل في هوية الإرادة(20) وإبدال يحمل طابع البدئ والشروع في إقامة تحالف مع السؤال الكينوني– لماذا التخلف “وهل نعيش الحداثة، سؤال يزيح عن تاريخنا العربي صفة الشمولية، والكليانية، ويقربنا إلى “الهامش” الذي يتوحد مع المتناهي، ومع الإنسان المتعالي ويقول هومي بابا “كل ما أردته هو أن أكون إنسانا بين الأناس الآخرين، أردت أن أجيء رشيقا وفتيا إلى عالم يكون لنا ونبنيه سويا(21)، وهذه الإدارة الاحتجاجية لكونية الإنسان هو الذي دفع بالناقد إلى ابتكار مفاهيم واقعية تكوينية تمنطق اللامعقول في شكل نظام مشفر يضمن لنا حظوظا أوفر لتنمية التواصل لا الإقصاء والمحو وتوفير التجانس القاري العالمي وذلك في صلب التعددية(22) الإنسية ذات الأبعاد المعرفية.

فالقاعدية تفرز عناصر تغييرية أكيدة وحتى الرؤية النقدية تتكيف مع القناعات الإيديولوجية ومع أنماط اشتغالها، لبناء صيغ فنية مشرعنة قادرة على إمدادنا بمرجعيات تاريخية، وتعاقد مبني على الديمقراطية الاجتماعية(23). ولاشك أن هذا المنهج الاجتماعي هو وسيلة وغاية حسب المخرج يضعنا أمام المجهول لكشف حجب النص المسرحي وما يعتلي في مدارجه من قيم إنسانية ودرامية ويقول في هذا المصدر “إن المنهج مؤسس كدمة النص سيساعد على ممارسة النشاط الفكري ببنية فكرية منفتحة”(24) فالخمار يعتمد أساسا على التفكيك المنهجي كمرحلة أولية من مراحل الجدل الاجتماعي الذي يعيش التناقض والتحول البنيوي” لذا تبني المنهج السوسيولوجي للبرهنة على الرؤية الزائفة التي يخلقها لنا الواقع بشكل زئبقي، ويقول في هذا الصدد “الناقد الحقيقي يجعل المنهج عاشقا للنص، وليس مسطرة صارمة في القراءة”(25) يطرح هذا الحضور المنهجي صعوبات في التوظيف وفي البناء نظرا لما تفعل به التجربة من طرائف ومن وسائل فكرية غير معهودة في النقد الكلاسيكي ونظرا لكون القراءة السوسيولوجية تتطلب قارئا ممارسا، ومسلحا بأدوات فلسفية، ومعرفية ومفاهيم مستمدة من النقد الجديد، (البنيوية – اللسانيات – التفكيك – التأويل … والأسطورية، والسيميائية) حتى يتمكن من فهم بوظائف العرض، وإدراك أعماقه المنسية.

فالقارئ إذن عليه أن يسلك دروب الاكتشاف الجديد بكل تقلباته، نظرا للعلاقة بين الفكر والواقع، وهذه العلاقة تجد مدها بين النص الأدبي، والواقع الاجتماعي(26).

والمخرج في تصوراته التي قاربت موضوع الرغبة في الاختلاف، حيث انطلقت هذه التصورات من مسلمة مفادها أن الجسد الدرامي لا يعرقل القوى العاقلة عند بلوغ الحقائق، وبذلك أصدر عدة استفهامات في مسار تلبية رغبات هذا الجسد، من أجل بلوغ الحقائق الموجودة في عالم المثل ذات الطبيعة التجريبية الدرامية، فالرغبة هي التحرر من المتناهي، والمقموع لبناء رؤية نقدية جديدة لا تعتمد الحلول، الصوفية، ولا المثل الأفلاطونية، بل تعتمد المقومات الاجتماعية المتصارعة اللامتناهية.

إذن يطرح المنهج السوسيولوجي صعوبات قرائية نظرا لما تحفله به التجربة المسرحية من وسائل فنية ودرامية غير معهودة، وطرائق نظمية التي تنم عن قوة إبداعية، أكثر ما تتم عن قوة تأليفية كلاسيكية فالمخرج يهدف إلى تفجير اللغة من أجل وظائفها وقدراتها، وهذا الاختراق ملازم لهذه الصفة الإيجابية التي ترتبط بطبيعة المنهج الذي يكون الإنسان فيه هو الرؤية، والتاريخ وكذا المعرفة والمكتسبات، لأن هذا التنوع لهذه المعارف المسرحية، هو تأسيس جديد يحترم كل التمفصلات التي جسدها – الممثل – حميد ليستعيد العاطفي والفكري وليماثل السيرورات الإدراكية ذات الطابع الإخباري، والحكائي.

لأن التمثل المنهجي أكسبه طابعا منهجيا، مما أعطى للدراسات المسرحية خلقا جديدا، وثقافة متنوعة راكمت جميع البنيات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، التي رسخت بعض المفاهيم العامة عن الممارسة النقدية والإبداعية، والسيرورات الاجتماعية وصيغة غير تيبولوجية. وذلك بالتمثل السليم والشامل والإحاطة  الشاملة بمكونات هذه المناهج يتطلق من مفاهيم جسدية مع التأكيد على إمكانية من المواصفات الإنسانية وخاصة العربية، من هنا نؤكد أن تجربة الخمار المريني تسعى دوما بالخروج من الجاهزية التي تفرضها الدراسات القديمة بكل براعتها التفسيرية والتقويمية فهذه الأنساق التصورية لهذا النقد جعلته أن يتجاوز افطار التنظيري والإيديولوجي إلى أعناق أسئلة المثقف بكل خطاباته وبمعطياته الجديدة التي يتدخل فيها ما هو تأملي، ومتعالي بما هو التزامي واجتماعي.

إن جل التحولات النقدية لها ما يبررها في سياق فكري. صانع الإرادة والحرية، فالممثلون (حميد – عزيز – إيمان) سمحوا لنا بالتعامل مع الواقع والأحداث برؤية بصرية مفتوحة على التعددية، والاستمرارية وذلك بأدوات تعمل على تشريح للمقولات المعرفية والنقدية لمعرفة ما تمارسه الخطابات المفاهيمية من آليات الحجب على النص المسرحي، (أيعلى الواقع الاجتماعي المفتوح على التغيرات والانقطاعات والمفاجئات، والذي يحتاج التعاطي معه إلى منهجية نقدية مرئة يتحرر معها الفكر من سلطة المقولات، وشرطة المؤسسات وحتمية الأشياء(27).

فالممثلون عملوا على إبراز بعض الخصائص المهمشة، دون تأريخ يذكر، فالغرباء هم مماليك الذاكرة المنسية، وهم أيضا حكماء لا يعرفون الانتماء، ولا الخضوع، بل هم أناس تنوسيوا من الذاكرة ومن التاريخ، فأصبحت المعادلة غير واضحة، وغير جدلي لأن الانكسارات والترجحات العربية، تتلمس وظيفتها المشروعة في إعادة مراجعة الواقع العربي بوعي متجدد، مرتبط مع عقلانية مجتمعية ومع تاريخه لمعرفة “عملية انفتاح متواصل على الكينونة.

إن فهم هذه الظاهرة الانفتاحية ينبغي أساسا استجلاء مفهوم أساسي وجوهري الذي هو مفهوم كينونة المركز الذي يميل إلى مجال فلسفي وجودي ينبغي أن تموضع فيه كذلك الانفتاح النقدي الزيداني، حيث أن إشكالية الوعي المنهجي(28) إنها إشكالية حملتها هذه الدراسة التي أفضت من خلالها إلى بلورت منهج متميز راكمت من خلاله المفاهيم الجديدة التي تولد عبر مجموعة من الاكتشافات النقدية، ومع الصرخات التي عرفها الوطن العربي. حول سؤال الهوية كضرورة لاتخاذ المعايير النقدية للمركز كمقياس وكسؤال يعمل على فهم العالم من أجل تغييره، لأن الهوية لا تعيش بحويتها في الزمان وفي التاريخ، ويقول جمال باروت وأمة في كيان يساوي واحد(29) إذن يتميز خطاب الهوية المركزية بحيوية، لأنه يشكل طوق نجاة حقيقي للإبداع ويقول الناقد “يبقى سؤال يحتمل كل التأويلات، وهو يقارب معنى الهوية بمعانيها الموجودة، كون هذه الهوية لا تعني التطابق، والتماثل، بل تعني اختلاف الواقع والتاريخ والإبداع”(30). لعل هذا ما يعتبر في بعض الأحيان شيوع ظواهر فلسفية كالمثاقفة والأنا / ونحن / الآخر، والسؤال، والكينونة، كلها إشهارات احتلت موقعا جوهريا يرتبط بالأفراد المهمشة والمجتمعات المقصية وبفعل التأثير، ويقول خلدوم الشمعة “بأنها علاقة ما بين ثقافة غازية وأخرى مغزوة”(31) فالمثاقفة هي مسألة احتكاك وسيطرة وتغير مجلوب من الخارج، يخضع لتبيئة محلية ووطنية دون استيطان الآخر أو ما يسميه صورة جديدة ونوعا نضاليا، يتخذ شكل العودة إلى هذه الأنا / في بعدها الحضاري والثقافي وبه لتحديد حقيقة التبادل الثقافي والتقني والعملي / ويجعل من العرب محورا معيارا كونيا يؤسس لنفسه مفاهيم وآليات معكوسة من التمركز الذي ينفي الآخر، ويقول بعض النقاد في هذا الصدد “يجب ممارستها في هذه المرحلة لونقد الفكر الغربي السائد في ثقافتنا الحاضرة لاستبطان الطرق السلمية التي يمكننا اتباعها للتغيير عن عوامل التسوية، فهذه الرؤية التمسرحية تنطوي على درجة من الوعي المعرفي، لأنها تجعل هذه الذات العربية قادرة على نقد هذا الفكر العربي المركزي، ولكن لا تعرف ما هو نوع هذا النقد، وكيف يتم هذا التفاوت، وكيف نغلق عقلا محتضرا وليس همجيا، أسئلة تعمل على تأسيس وعي جذري يبدأ بنقد الذات، من أجل تأسيسها لكشف علاقتها بالآخر ومن أجل توليد رؤية موضوعية عملية التي تجمعنا بهذا الغربي في قارة ابستيمية واحدة تلغي النرجسية لتكونه لنا معالم متكاملة، ومتجانسة نسبيا مع الفكر، والمواقع.

فرغم أن المخرج لم يشر إلى نوعية القراءة وإلى مسالكها، من هنا نطرح الأسئلة التالية: هل المخرج قارئا انتربولوجيا، أسئلة كما ذكرنا لا تحجب عنا التاريخانية كمقوم خطي، بل تهدف إلى كشف أسباب التفاوت الفكري والتقني، والمنهجي وانتقال من البسيط إلى المركب في إطار علاقة نظرية بين التطور الاجتماعي، والتطور الفكري العربي المتخلف لمعرفة إنسان “منتج متحرك غير مغترب عن تراثه ولغته ووطنه”(32) فالمخرج حسب هذا الطرح المقولاتي قد أصبح يقع في مرحلة ما بعد الحداثة التي فككت بديهيات النمط التاريخاني، وذوبت مسلمات الشمولية والإطلاقية، والتي شكلت البنية التمركزية الغربية ولم يعد مفهوم الهوية المغلقة، بل أمست هجينة جديدة تلغي المرحلة التاريخية الراهنة من أجل معرفة ما يريده العرب المثقفون لشعبهم”(33). فالمراجعة النقدية تحولت إلى بعد من أبعاد البناء، والتأسيس، والاختلاف، لمحو غربة الإنسان العربي، واستهلاكه للآخر، من أجل بناء هوية عربية” إذن فالإنسان المغربي يعيش التعددية بما تحمله من رغبات ومصالح جديدة، وبعدا من أبعاد النظام العالم الجديد كي (تملأها بقيم ثقافية وحضارية بديلة حمولة استعمارية جديدة” إذ لم يعد الإيمان الكلي بالتفوق العلمي، والثقافي على نحو مفرط، بل أمسى الاختلاف هو الأجذر والأقوى من أجل إقامة نوع من التوافق(34) الماهوي الذي يؤكد على اندراج إشكالية الديمقراطية والحرية وشكل حوار جديد يقوم على احترام حقوق الإنسان، والمبني على الاختلاف، والتعددية.

لقد وظف المخرج كما ذكرنا عدة مفاهيم نظرية أساسية التي تحققت في التربة المسرحية، وحدد بعض معالمها ووظفها توظيفا نظريا وممارساتيا، بهذا الشكل الذي يجعل من الممارسة شروط ملحة بتطور الصراع الطبقي، بالشكل الذي يتحدد فيه الصراع بالقاعدة المادية للبنية الاجتماعية، فهذه العملية النقدية لها علاقة مباشرة بالنصوص المسرحية سواء في إدراكها وتصورها للواقع، ثم الأشياء الفنية التي يحتويها خصوصا تحت تأثير الإشكالية المادية وخاصة الإيديولوجية، ويقول ألتوسير، “إن الإيديولوجيا هي دائما نسق من التمثلات، ولكن غالبا ما تكون صورا، بل حتى حين تكون تصورات أومفاهيم، فإننا نفرض وجودها على الأغلبية من النائب والجماعة، باعتبارها بنيات دون أن تمر عبر وعيهم”(35). فالإيديولوجيا حسب ألتوسير عبارة عن تيمات ثقافية، وفكرية ملموسة، ومعاشة، لأنها تؤثر وظيفيا على الإنسان وذلك في إطار صيرورة تتجاوز قوة الإدراك الفردي، ومن ثم نجد المخرج الخمار يعيش إيديولوجية تتشكل من اشتغال الوعي، بوصفه موضوعا، وعالما معاشا حسب تعبيره، وتبعا لسنة التطور النقدي والمنهجي وقانون الممارسة الإبداعية، فالإيديولوجيا المركزية تمر عبر صورة اللاشعور، ومن ثم تتأسس الإيديولوجيا كتعبير عن علاقة الناقد بالواقع، وأنها أيضا بمثابة وحدة تجمع علاقة الإقرار بالظروف الاجتماعية، إذن فالإيديولوجيا تمثل حسب ألتوسير مجالا رحبا وحيويا من شأنه أن يدعم تعالق المجتمع بظروفه في جوهر العلاقة المتخيلة نفسها.

انطلاقا من هذه الأرضية يصبح من الضروري أن المشكل الاجتماعي لما يحمله من انكسارات وتراجعات معتبرا إياها مشكلة نظرية ذات أهمية قصوى، لأن جل القرارات التي تعاملت مع الفكر المركزي لم تستطع أن تتجاوز مفاهيمه للدخول إلى أبعاد نصية وجمالية، لدا حاول المخرج الخمار بدوره إيجاد واقع نقدي يربط بين البعد المنهجي، والواقع الاجتماعي لكي يكسب لهذه المفاهيم قوتها وشرعيتها، ولتأخذ محوريتها داخل الحقل المسرحي، لأن المشروعية هي “مسألة جوهرية بالنسبة لعلم السياسي الحديث والمعاصر”(36). فهذه الشرعية للهامش هي شرط الزامي موضوعي للواقع بكافة حيثياته، ووفق آليات جمالية، وتأسيس نقد مسرحي ليتخذ مفاهيم متنوعة لا تخرج عن إطار الخصوصية التمسرحية والتواصلية، والمعبرة عن مختلف أنماط الفلسفة السابقة والمعاصرة القادرة على تحويلنا من التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية(37) حسب تعبير أحمد محمود صبحي، ووفقا لهذه الرؤية التعبيرية الدرامية يجد المخرج الخمار المريني نفسه أمام الإشكالات المفاهيمية في ثنايا العرض المسرحي، وفي اللغة الدرامية التي تقيمها مع التراث، والتاريخ، والمواقع، والمتخيل، لتخلق نموذج خطابا نقديا يتحكم في سيرورة المركز، وذلك من خلال دعم البنى الفكري، والثقافي، ومن باب توسيع مدارك القراءات الدرامية الركحية حسب تعبير الناقد (عبد الرحمان بن زيدان)(38) فالممثلون تعاملوا مع الإبداع النقدي المسرحي من خلال بعدين بعد ركحي، وبعد جمالي واقعي، وهذين البعدين اتخذ المخرج نمطا خاصا به، خارج عن إطار البعد الإشكالي الذي اعتمده جورج لوكاتشJ. Loukatch كوسط في إذكاء جذوة الصراع الإيديولوجي(39) ومستفيدا أيضا فيما يخص بتماثل البنيات الإبداعية والبنيات الدرامية الاجتماعية لكي يجعل العرض المسرحي عبارة عن تناصية جديدة(40) لا تقف عند سوسيولوجية المضامين، بل يحاول أن ينطلق من هذه المضامين، لكي يوصلنا إلى أبعاد جمالية وفنية درامتيكية، لأن هذه السيرورة التوليدية أحدثت رؤية جمالية للتاريخ النقدي المسرحي، وكذا بناء معطيات جديدة سواء في تجلياتها اللغوية، أو في استيعاب ماهيتها، حيث تكون إمكانية الإبداع كوعي يربط الراهن بالماضي بغرض التواصل مع التراث المسرحي ولينتج “الفرصة للتفسير والتعبير للكثير من السلوكيات الغامضة”(41). إن جملة هذه التحولات النقدية كان لها ما يبررها في السياق الفكري والاجتماعي المثقل بالهزائم والانكسارات ليلتمس طريقه المشروعة في إعادة مراجعة الواقع المغربي وبناء نسق وحدوي قومي جديد.

إذن الإخراج المسرحي هو فن السير الإبداعي، والمخرج هو الذي يريد معرفة الجزء الخفي من حياة المركز، لتفجير ذلك السر المسيج بالكتمان، والذي يصعب إنشاؤه، ويرى داوس (Dawson) “أن المسرحي يريد أن يستحوذ على انتباه الجمهور، ويجعله يعيش معه، فالنقد المسرحي عبارة عن بؤرة يكتسب دلالة من حيث الإغناء الوظيفي، ويجعل النقد يرتبط بما وراء النص، حتى يعين المرجع على الواقع المادي الملموس.

إن مفهوم الإخراج المسرحي بدأ كإشكالية جديدة ترتبط بما عرفها المجتمع الحديث من تغيير وتحول في مسار الفكر والسياسة والتاريخ، ويقول محمد نديم خشفة: “إن أي فكر أو أثر إبداعي لا يكتسي دلالته الحقيقية إلا عند اندماجه في نسق الحياة أو السلوك، زد على ذلك أنه لا يكون السلوك الذي يوضح الأثر، هو غالبا سلوك الكاتب نفسه، بل سلوك الفئة الاجتماعية التي لا ينتمي إليها الكاتب بالضرورة”(42). يبدو أن المراجعات التقويمية التي تتم اليوم لبعض الطروحات والمفاهيم داخل المركز لازالت لم تتخلص بعد من بعض القراءات التبسيطية، والتي لا تتجاوز حدود الذاكرة. فالمسرح نزوع إلى خصائص بعينها، يصبح فيها طابعا يميزه عن غيره من الصفات، الهامش يبدأ بسيطا ثم يثور عن دواخله، فهذا النوع من الثورة هو الذي يعطي للتأريخ زمنه وانفراده، لأنه في عالم متحرك وفق تطورات البنيوية، إنه التيار الذي يعتمد على الأسس الخاصة والعامة، وفي نفس اللحظة نفسها يفتح أبواب الحداثة ويحدد أدواته المعرفية والتمسرحية. ويقول محمد زكي العشماوي: “إن هذه الظاهرة من التجديد مألوفة وطبيعية، تعمل وفق حاجات التطور، فالطبيعة تتجدد من داخلها وضمن ظروف خاصة تفرضها حياة وملابسات معينة، ويبقى التجديد في هذه الحالة تحت جناح الأصولية وضمن الضوابط المعروفة لفن المسرح وأدبه”(43) وفي سياق السعي إلى تأسيس حركة جديدة لكل من النقد والمسرح، والمحددات الفاعلة في المجتمع، وإعطاء الأهمية القصوى في التوضيح للكل الهامشي الاجتماعي على العناصر التي يتأسس عليها المخرج على بلورة مفاهيم ونماذج من العلوم الإنسانية لأن الوصول إلى فهم المركز بالملاحظة والموضوع والبرهان ودقة التجريب، يوزع الواقع كما قلنا تبعا لسنة التثوير والتطوير والاختيار، وحتى كما لو كانت ظواهر طبيعية وعضوية، لذا عمل الخمار باستعمال هذه المفاهيم والتيارات في حقل توظيف وصياغة ملاحم الصراع السياسي والثقافي في هذه المجتمعات البورجوازية، لأن هذا الاستعمال والتوظيف، جعلنا ندرك أن التوازن بين الدولة والفرد بدأ يتبلور من خلال أدبيات تندرج في أفق السوسيولوجيا السياسية الوظيفية، وفي إطار المنظومة السياسية الحيوية التي يعرفها هذا العهد ويقول سعيد علوش: “وكتابة ما تريد قوى العسف أن ترغمهم على كتابته، لهذا الرفض تظل الأبواب مشروعة أمام الكتابة كفعل للتضامن التاريخي من أجل أن يملك شعبنا كل شيء”(44).

فهذا التبلور في صيغته الاصطلاحية والسياقية يرادف المجتمع السياسي المبني على التعاقد الاجتماعي والثقافي، مما يدعو إلى إعلان النوع والتجاوز الميتافيزيقي، والتحرر من جميع الأوهام ويقول ميشال فوكو (Michel Foucault): “إن هؤلاء المفكرين ذوو النزعة الإنسانية الذين يؤكدون على إلغاء اختيار سياسي ويرون أن الإنسان ينبغي أن يكون حرا، ويطرحون أسئلة متعددة سواء عن الإنسان أو عن كينونته وماهيته …”(45).

فهذا التأكيد على ضرورة الاهتمام بالإنسان، وبالتطور الثقافي، جعل الإخراج المسرحي الخماري يحل إلى مضمون ملموس وإجرائي، يسمح لنا بالإمساك عن ضرورة الحد من الادعاءات الكلاسيكية والرومانسية، ويمنح لنا إمكانية تحويل الواقع إلى جاذبية يكون الإنسان هو محورها، إنه بمثابة علامة جديدة تعطينا فكرة عن مكانة الإنسان وحقوقه المدنية والثقافية والعلمية. فتطوير إمكانية النقد المسرحي باعتباره مشروعا تتدعم مصداقيته بالتطور المستمر للإنسانية، وتقدم معارفها كشكل لا يقف عند النص، بل يدعو إلى المراجعة والتفكير في صيغة جديدة، وتوجيه جديد حول الوضعية المشروطة، ويقول أحد الباحثين: “فمعرفة فعلة بالأوضاع الثقافية القائمة، بما هي أوضاع ملموسة للصراع الطبقي والإيديولوجي، بل تنحصر وظيفته الأساسية في طمس العلاقات الفعلية التي تنظم الممارسات الثقافية وتحددها، وهذه الوظيفة السياسية لأنها شرط أساسي لأحكام العلاقة السلطوية في حقل الممارسة الثقافية، وإخضاع الممارسة الثقافية للجماهير، للممارسة للطاقات المسيطرة”(46). هذه الثورة الصناعية والفكرية دفعت المسرحي إلى نوع من المغايرة والاختلاف في الأسس والأفكار والحركات، سواء في بنيتها الكلاسيكية “العقل – التجربة” أو في بنيتها الرومانسية “الفرد – الحرية – الذات”، حيث ولدت الطبقة الوسطى والشعبية، التي هي حصيلة ونتيجة لنوع التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد. فلابد للمبدع أن يساير هذا التطور، رابطا بينه وبين المجتمع عن طريق النسق الفكري، باعتباره صنيع المجتمع الذي يعيش فيه. فالنهج الاجتماعي يسعى إلى تحقيق ثورة اجتماعية بواسطة الإنسان، وإلى معرفة ما وراء بين الظاهر، وإدراك البداءة، وإجراء الراهن وبين الوظيفة كعلاقة بين العمل الثقافي والإبداعي للإنسان والصبغة البيولوجية التي ترتبط عنده بنسق كلي، كما تخلف بطابعها الشمولي، على أساس لا وجود في السوسيولوجي لأي عنصر ثقافي أو تاريخي أو أدبي لا يستجيب لشروط حاجيات الإنسان. هكذا عمل الممثلون على مناهضة كل القيم، وقد كان “ابسن” و”برناردشو” اللذان غيرا وجه المسرح، جاعلان منه فاتحة غير نهائية، وموضوعا قادرا أن يستوعب كل التناقضات والانكسارات، وقادرا على محاكمة كل الأفكار المشوبة بالبداهة والاستغلال، لذا نجد ابسن قد أدمج الواقع في مسرحياته المتنوعة كهدف نقدي لكل الأوضاع المحيطة به. يقول فوزي أحمد فهمي: “فقد هجر الموضوعات القديمة التي اصطلح على تسميتها بموضوعات العصر الفكتوري، وكتب “بيت الدمية” و”عذر الشعب” و”الأشباح” و”البطة البرية” التي تعرض للأوضاع الراهنة في مجمعه”(47)، فالاعتقاد أن هذا الطابع النقدي لا يعني الاقتصار على ما هو واقعي، بل يهدف إلى النثر في كل الأجناس المرتبطة بالبعد التأويلي والتفسيري، ثم تحديد بعض السمات المتنوعة لكل جنس عبر توظيفاته الإيديولوجية، باعتبارها مرآة للعصر والمجتمع، فقد عمد إلى تصوير سائر الجوانب السلبية لهذا المجتمع، جاعلا منها قوة جديدة تحل محل القوة القدرية، من هنا كان ابسن بطلا فاعلا وفردا لا ينصاع للأوامر ولا للنواهي، وعلى هذا النهج سار أنطون تشيجوف الذي عمل على خلخلة مجموعة من الثوابت الاجتماعية بصيغة فنية، حيث يكون فيها البطل من الطبقة الشعبية، يمتزج بكل الرؤى التي تنادي بالتعبير ويقول أبرودان حميد: و”الخلق في المسرح هو اكتشاف الحلول لمشاكل الشكل من ناحية الفضاء المسرحي ومن ناحية التركيب والبنية الدرامية للنص الأدبي، وكذلك من ناحية الهندسة الداخلية المسرحية، فإذا اكتملت هذه العناصر وتناسقت بدون اصطدام كان الخلق المسرحي وجاء التطور”(48).

أما برناردشو فقد ساهم في إبراز مفاهيم الصراع الطبقي والبنية الفكرية، في صياغة رؤية فلسفية سياسية متطورة، بالمقارنة مع التحولات السياسية السائدة. فبرناردشو يدعو إلى بذل جهد نظري في إعادة بناء منظومة واقعية اشتراكية انطلاقا من الواقع.

إذن لماذا ثم اختيار فكر الخمار المريني كموضوع للبحث، عن المفاهيم الفكرية، والإيديولوجية، والجمالية الموظفة، أسئلة لها دلالات وجودية تتحدد من خلال الصيغات التالية، لماذا سؤال الهوية؟ ولماذا الاختلاف المعرفي والنقدي؟، وهل سؤال النقد المسرح قادر على إبراز خصوصيته دون الاستعانة بالمعرف الأخرى؟ فالمخرج في متونه يتصهر في عملية التركيب ليصبح هذا النقد السؤال، كينونيا. ومكسبا لتطور الفكر العربي المعاصر، لأن هذا المفهوم النقدي أمسى كقاعدة جنيالوجية يظهر في الفكر الاختلافي(49) والمخرج كما ذكرنا يطرح العديد من الأسئلة الوجودية، والمعرفية، فأين نحن من فكر الاختلاف، وأين تموقع المخرج من هذه التحولات الجديدة؟ غن المخرج خاص حربا ضد فكرة القطيعة مع التراث، لكي يؤسس لهذه الذات التراثية تحققاتها الفعالية من أجل التخلص من اليقينيات الكلاسيكية، ويقول محمد مزوز “إنه لا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام مادام العالم منغلقا أمامنا، والانغلاق الفكري هو الذي يحكم انغلاق العالم، أي ترسيخ التصورات الكائنة، وتثبت الرؤى التقليدية، لازلنا نعتبر الحديث عن الخلاف الأصولي، أو الخطاب النهضوي، حول الطريق القادر على تغيير وعينا وتصوراتنا للعالم، المدروس التي تأتينا من التراث، والدروس الواردة من الغرب هي تقليد مزدوج اللغة والرؤية، واستهلاك هذه الدروس بدعوى أخذ العبرة، لا ينطق عن منطق الوعظ والإرشاد”(50) فالمتأهل في هذا الطرح المقولاتي سيجد نفسه مشدوها أمام مجموعة من القضايا يمكن اعتبارها العتبة العليا التي من خلالها نلج عالم المخرج باعتباره عالما أجرأيا يدرس القضايا التي لم يستطع أن يتخلص منها هذا النقد، ليرتقي إلى مستوى أنطولوجي، قادر على التفكير خارج المؤتلف، والمغلق، حتى لا يتم الفضاء المطلق على كل فكر قديم لأن الماضي ليس مجرد قول عابر، بل هو بنية الوجود، وليست هذه النزعة القرائية إلا تحولا في كيفيات التأويل ونمط البحث عن الحقيقة ضد النمط العام لجوهر العمل المسرحي ومكزناته” فبعث الحياة في هذا الماضي هو أساس التفكير الذي يجعل من فكر الاختلاف قيمة جديدة داخل القارة الدراسية، وذلك من أجل إقصاء ميتافيزيقيا النص، ومنطق التمركز اللغوي داخل القراءات الكلاسيكية، لأن الإخراج بحث في وجودية النص، وإثبات فواصل الذاتي، ورغبة في الوصول إلى الجواهر عبر التعدد، وليس عبر الوحدة، وبحث في المؤتلف، والمختلف وفي التضاد القبض على المتقابل.

إن المهمة الجديدة للاختلاف المسرحي فهو تعيين مفاهيم تفكر في الانفصال، كالعتبة والقطعة والتحول وهذا ما جعل المخرج يبعد النظر في بعض المقولات الأرسطية التي تعتمد المطابقة وعدم زرع بذور الاختلاف “كمفهوم أن صورا على عدد صور الهوية ولعلم واحد، بالنظر المطلق في هذه الصور، ومعرفة ماهيته، أعني لعلم واحد النظر في المتفق والتشبيه” وسائر الأشياء التي تشبه هذه وغيرها، وفي النهاية تنسب جميع هذه الأضداد إلى هذا العلم الأول(51).

فتجاوز المطابقة والذاتية، تعني عدم الاختلاف، وهنا نتساءل هل هذه الوحدة في الماهية، أم في وجود الاختلاف الماهوي؟ فرغم تأكيده على المطابقة، في الوحيد، الذي له القدرة الكاملة للإمساك بالمقابل دون أي تغيير جوهري، لأن الاختلاف حسب أرسطو Aristote هو اختلاف وتضاد في النوع، وهذا ما سماه جيل دولوزLa différence spécifique(52) فالاختلاف يظهر هوية التنوع المقولاتي (التوزيعي)، لكي يأخذ البعد التعددي شاعريته ووجوديته، وأنه يتوفر على بعد مفهومي، حر من الأسس المنطقية والانغلاقية، وأن تكون هذه العناصر محددة بكيفية عقلانية تتمتع بعلاقة تبادلية غير مستقلة، وأنها ترتبط بالبعد الحيواني الذي يتجسد في شكل تعالق معاصر(53) فهي داخل الاختلاف تتجدد المفاهيم وتتخذ شعريتها الأنطولوجية، والتاريخية طبقات درامية، لأن المسرح سؤال أنطولوجي يبحث عن الأصل المفقود، والمعنى اللامشترك، ليجعل ملكات الخيال المتعالي ينتعش”(54) فالسؤال النقدي يتحدد كما ذكرنا كأنطولوجية لا نصية، وغير منطقية(55) لأن الأسئلة حسب دولوز يسميها بلعبة النرد، وهذه الأفكار المتداولة هي إشكاليات مركبة في كل لعبة، ولا يمكن أن تكون سوى للفكر المغاير، ولا تتحقق إلا من طرف الإنسان، فبالفكر يتخذ الواقع الاجتماعي، ويتجدد الإنسان حسب تعبير دولوزDeleuze في كتابه “منطق المعنى” ص: 68، ليكون خارج كل النزاعات التاريخية والمركزية الذاتية(56). فاللاحضور يفكر من خلال الحضور المركزي أي أن الماضي والحاضر والمستقبل يتجدد على شكل ماضيين وحاضرين ومستقبلين، إذن كيف تتجدد فكرة الاختلاف عند الخمار، وما علاقته بالوعي واللاوعي، وبالتالي هل يمكن لفكر المخرج المرتبط باللاواعي التراثي أن ينتج معرفة جديدة تتجاوز المقولات الأرسطية؟ أسئلة حسب دولوز Deleuze تتوزع وتتشتت وتتنوع حسب تنوع القرائي، وليس في حاجة إلى الوحدة القرائية البسيطة لتشكيل خطابه، ودولوز بدوره يحدد الأفكار انطلاقا من البعد الاختلافي الغير الماهوي(57) فالمخرج الخمار المريني لا يرتبط إلا بالبعد الماهوي، والذاتي نظرا لما يوفره من العوامل الفنية المستفيضة لقضايا إنسانية راسخة. لأن سؤال الهوية، والإنسانية، والذات يكتسبن مشروعية من خلال ما يتوفر من حيثيات فعلية تأصيلية للشكل النقدي المسرحي، ويقول الناقد بن زيدان في هذا المقام (إن التعامل مع النص المسرحي عبر عملية ميكانيكية منفصلة عن ظروف النص ومكوناته وقوانينه الذاتية والموضوعية(58) وهذه الرؤية الإجرائية تجيب عنه الأسئلة المطروحة على الساحة النقدية بواسطة مواجهة الواقع وصياغته وفق النسق الفكري الجديد، والذي يحفز دور الخطاب النقدي المسرحي في اقتراح أبنية جديدة الذي يتعدى المنطوق والمطروح في كل مقول إلى المستعيد، والمسكوت عنه ويتيح لنا تجاوز الصراعات الإيديولوجية المنكسة ليجعل علاقة الإنسان بالإنسان تتسم بالطابع الاختلافي، والتمايزي منطقا نقديا جذريا نلتمس فيه التنوع، والتعدد التأويلي ولننظر إلى التشابه والذاتية كما لو كانت وليدة التنوع، والتحدد الأولي، ولعل تفكيك هذه القارة الدرامية العربية، يسمح لنا بأن نتواجد فيها باسم الاختلاف، وأن نمتلكها دون أن تمتلكنا، لن النقد هو الكشف والإبانة عن كل مسكوت عنه داخل تاريخنا، وذاكرتنا، وإظهار أيضا الإيديولوجي والسياسي، والفقيه، والفيلسوف، والفنان والناقد، لكي ينتقد هذا المسار النقدي انفصالاته، وقطائعه كلون لا متناهي داخل الخطاب العربي، إنه حضور للذات الناقدة من داخل التقابل الوعي / واللاواعي، والحلم / والواقع، والحضور والغياب، والشقوط / والبناء، والذات / واللاذات، لأن العرب ظلوا حراس “الذات المركزية” على التفكير خارج الذات، والتاريخ، دون فهم الآخر، المركزي (الغربي)، الذي ينعتنا بالتخلف، والجهل وغياب العقل إذن بالهامش، وبالمختلف، فهذا الهامش لابد أن يكون مركزا ناقدا وليس مطاوعا ولا يمثل النهاية الذي له علاقة بالممارسات الاختيارية والاختبارية التأليفية الدرامية(59) لقد ارتبط المسرحي المغربي بالذاتية وبالوحدة، والتيمية دون إحداث أي تقب في المتخيل، ولا في التراث، إذن نتساءل ما صلابة الخطاب النقدي المسرحي أمام التفكيك؟ وكيف يتوفر على “متاهة الأذن” الجمالية والفنية حسب تعبير ديريدDerrida، أسئلة تنثال علينا انثيال المستحيل فنحس بالشجو، وبالإيقاع المتنوع وأن تحدث ثقبا في ذواتنا لنسمع من يتحدث فينا وإلينا، فهذا الهدم هو دعوة إلى زرع الاختلاف في الائتلاف، والتعدد في الوحدة وتشذيب كل الخطابات الدرامية (المكتوبة، والشفوية) التي تتأسس على اللغة الطبيعية وتنتهي كسلطة استعارية، وكمنطق.

ليك الله الغريب حي ولا ميت معندك قريب الفدان تفدن، والبشر تعفن، مكاين غي نهب سرق، خود، قتل، ضرب، ظلم.

الكرش كبرات، والضمير مات، مات كلشي فينا حنا الموتى أحياء، حنا الأحياء موتى ما تنصفنا، ما نصفونا ولينا مهزلة دفنونا فزبالة، بحال شيح ثالا ضنو المشكل شالا، والدعوة قايمة مازالا ولي يحفر ما يغرقش.

فدان الغربة هذا … شاهد كله عل من تمادا.

فدان الغربة:

تأليف: المبارك بن المير

إخراج: الخمار المريني

تشخيص:

– عزيز مشكور      – ابتسام النهري      – حميد شيبوب

– زينب النهري       – عبد القادر سمينة – فاطمة الزهراء الصنهاجي

– أحمد أبو حليم     – مروان زكري

تقنيات:

– فريد بوزيدي

– أمين المريني

– سفيان أنغور

المحافظة: سعاد روان

إنجاز: د. الغزيوي بوعلي / مختبر اللغة والفكر / فاس

دة: بن المداني ليلة

تابعوا آخر الأخبار من لينابريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من لينابريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من لينابريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

السبت 21 ديسمبر 2024 - 17:46

وفاة تلميذة داخل إعدادية الگواسم جماعة تاسلطانت بمراكش تستنفر السلطات

السبت 21 ديسمبر 2024 - 16:30

رئيس مجلس جهة درعة تافيلالت يستعرض تجربة تمويل برنامج التنمية الجهوية ضمن أشغال النسخة الثانية من المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة

السبت 21 ديسمبر 2024 - 15:56

كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بسطات… والتمادي في الخروقات والعشوائية…

السبت 21 ديسمبر 2024 - 15:26

شبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير