¤بقلم الحبيب الشوباني (رئيس جهة درعة تافيلالت)¤.
▪ *المقالة الثانية* ▪
٢- *في أهمية مواصلة المصالحات والإصلاحات المصيرية والمستعجلة.*
لن
يُسيَّر العالم ولا دُوَلُه بعد “ربيع كورونا ” كما كانا يسيَّران قبلَه !
ولن يعود الأمر حكرا على معضلة “الاحتباس الحراري” فقط، بل سيصير توقع
المخاطر الكونية بجميع أصنافها حجر الزاوية في وضع السياسات العمومية
وتتبعها وتقييمها. *ستتحول المقولة المشهورة gouverner c’est prévoir
وتصير أكثر دقة ووضوحا وخطورة. ستعاد صياغتها لتُفيد ما يلي : gouverner
c’est prévoir et savoir gérer les catastrophes et les crises de la
mondialisation . سيكون ذلك واضحا من الآن فصاعدا في أذهان جميع صناع
القرار.*
في هذا المناخ،
ومن وحي دروس “ربيع كورونا ” ، تظهر حاجة وطننا إلى إجراء ” *أربع
مصالحات* ” تاريخية و ” *خمس إصلاحات* ” مصيرية، كلها ذات طبيعة مستعجلة
وحاسمة لتأكيد الوعي الجماعي المشترك للمغاربة بتحديات ما هو آت لا محالة
بعد “ربيع كورونا”.
▪ *المصالحة الأولى : المصالحة مع العِلم والعزم على بناء “مجتمع المعرفة”* ▪
في
زمن ما بعد ” ربيع كورونا “، ستتجاوز العلاقة بين المجتمعات الضعيفة علميا
، من جهة، وبين العلم والمعرفة من جهة أخرى ، مستوى ربط الموضوع بقطاع
حكومي أو سياسة عمومية جزئية. سيتعلق الأمر حتما بمعركة مصيرية لرفع هذه
الشعوب *تحدي إعادة صياغة سلوك وثقافة أفرادها ومؤسساتها وإدارة شأنها
العام ، وابتكار حلول ذاتية لنموها وتأمين تقدمها وإدارة أزماتها ، على أسس
العلم والتكنولوجيا ووفق قواعد ومهارات الذكاء الرقمي ومنطق المنافسة بين
مجتمعات المعرفة.* وما من شك أن بلدنا المغرب يملك
كافة المؤهلات الحضارية والبشرية لإجراء مصالحة عميقة مع العلم والمعرفة
تجعل الاستثمار في التعليم ومراكز البحث العلمي والابتكار، واعتماد
التخطيط الاستراتيجي في تدبير شؤون الدولة، مداخل أساسية لصناعة مجتمع
المعرفة. إن “ربيع كورونا” كشف طبيعة المواطنين والمؤسسات والكفاءات الذين
تحتاجهم الشعوب في لحظاتها الحرجة، والذين يتم إعدادهم كمّاً ونوعاً في
ظروف الرخاء لا في زحمة الأحداث ( مدبرو الأزمات مركزيا وترابيا، الأطباء
ومهنيو الصحة، المدرِّسون والباحثون ، المسعفون، القوى العاملة والمنتجة
والمهنيون، الإعلاميون المَهَرَة …الخ ) ، كما كشَف هذا الربيع نوعية
المؤسسات التي تتطلع إليها أفئدة وعيون المجتمع لدفع البأساء والضراء عنه (
مستشفيات ومختبرات جيدة الخدمات في عموم تراب الوطن ، بنيات الاستقبال
والإسعاف ، المؤسسات التي تضمن استمرار الخدمات الأساسية في التربية
والتكوين، حماية الأمن والحفاظ على الأرواح والممتلكات، المحافظة على
انتظام قوة الإنتاج، العمل عن بعد، التدريس عن بعد..إلخ). *إن من معاني
المصالحة المقصودة في هذه الإشارات ، رد الاعتبار المجتمعي لمنظومة التكوين
والصحة والبحث العلمي الحالية، وتصحيح اختلالاتها التي حولت العديد من
الجامعات والباحثين إلى مجرد مؤسسات عادية وموظفين عاديين لا أثر لعلمهم
وبحثهم في حياة المجتمع.* يدخل في هذا الباب أيضا، ربط التعيين في جميع
المسؤوليات التدبيرية مركزيا وترابيا وفي المؤسسات المنتخبة بالخبرة
والكفاءة العلمية، ووضع استراتيجية وطنية لوقف نزيف العقول والأدمغة نحو
الخارج ،من جهة، واستعادة ما يمكن من هذه العقول والنوابغ من المهجر، من
جهة أخرى؛ والعمل على توطينهم أو تشبيك العلاقة معهم في مهجرهم ، في مناخ
من العناية المستحقة والتعاقد المُنتِج، بما يمكن من تشكيل منظومة طموحة
وفعالة من الجامعات ومراكز البحث والابتكار تكون قاطرة لقيادة وتحقيق
التحول التاريخي المأمول نحو “مجتمع المعرفة”، وفي أفق منظور لا يتعدى خمس
سنوات.
▪ *المصالحة الثانية : المصالحة مع “المال العام” كمقَوِّم للنهضة وكمشترك وطني لتحقيق “أمن” الدولة والمجتمع* ▪
ضرب
” ربيع كورونا ” الحصار على الجميع، فتوقفت فجأة الحركة الهادرة للمطارات
والموانئ والطرق السيارة بين جميع الدول ، ولم يعد من سبيل لأي كان إلا أن
يلتفت إلى ما يوجد داخل وطنه من إمكانيات وموارد مالية لضمان استمرار
الحياة إلى أن تنجلي الغمة ويرفع الوباء سلطانه.
*في
هذا التمرين المشبع بمعاني ودلالات الحصار الكوني الشامل، سيفهم كل الذين
يدخرون أموالهم ويمتلكون عقارات وموجودات خارج الوطن ( بغض النظر عن كونها
قانونية أم لا / حلال أو حرام ) مخاطر هذا الإدخار،* وكذا الذين يكتنزونها
في صناديق “قارونية” في بيوتهم داخل الوطن؛ سيفهمون جميعا أن هذه
الاختيارات خاطئة وغير وطنية ولاعقلانية لا في روحها ولا حتى في منطقها
النفعي/ الأناني أيضا. *ففي ظروف الأزمات والأوبئة العالمية تتكشف هذه
الحقيقة الساطعة : 《لا قيمة لأي شيء إلا لما يوجد في الوطن، ولا قيمة لما
يوجد في الوطن إلا إذا كان سينفع الوطن ويساهم في بناء أو إنقاذ الوطن》* .
من هنا يكون من معاني هذه المصالحة المصيرية ، اعتماد تدابير تحفيزية تشجع
على استرجاع الأموال المودعة في الخارج لضخها في شرايين الدورة الاقتصادية
والمالية الوطنية ( تدابير المساهمة الإبرائية لتمويل صناديق التماسك
الاجتماعي/ تأهيل المنظومة الصحية / تمويل البحث العلمي وبناء مجتمع
المعرفة…) وتحقيق أعلى مستويات الاستبناك للأموال المكدسة داخليا
bancarisation (تدابير تسوية الوضعية غير المصرح بها للأموال الموجودة في
حوزتهم داخل المغرب). وكذا اعتماد منظومة تشريعية وتنظيمية ولوجيستيك رقمي
قوي حديث ومُحيَّن، لمكافحة الفساد المُضر بالمال العام ، والتصريح
الالكتروني الشفاف بالممتلكات، وتحقيق تنسيق دولي فعال مع الأبناك
والمؤسسات المالية، لجعل حركة أموال المقاولات ( خاصة الأجنبية )
والمواطنين المغاربة، تحت مراقبة صارمة للدولة من أجل الحيلولة دون مغادرة
مال الوطن للوطن، إلا بما يخدم مصالح الوطن وحقوق الأفراد والمؤسسات
المكفولة قانونا. *لقد أكد “ربيع كورونا” أن صيانة المال العام ( وحتى
الخاص) يقع في صلب مسؤوليات الدولة والمجتمع لحماية “الأمن الوطني” في
مفهومه الواسع، وأنه لا مناص من إخضاعه للمراقبة الدقيقة وتوجيهه نحو
الاستثمار في نهضة الوطن ورفاهية المواطنين، وفي ما يقوي مناعة المجتمع ضد
صدمات العولمة ومخاطرها.*
*▪المصالحة الثالثة : مواصلة ترسيخ سيادة القانون وتكريس عدالة تكافؤ فرص المغاربة في بناء الوطن▪*
بعد
“ربيع كورونا”، سيكون من الرشد والحكمة أن تتجه كل خطط وجهود وسياسات كافة
مؤسسات الدولة من جهة، وعمل المنظمات السياسية والمدنية وعمل المفكرين
والمثقفين، من جهة أخرى – في تناغم وتعاون لا تنازع فيهما ولا خلاف – نحو
الاستثمار في مواصلة بناء دولة القانون وسيادة سلطانه، والعمل على بلوغ
أقصى مراتب الحكم الرشيد الممكن والمأمول. *يدخل في مشمولات هذا التوجه جعل
الاختيار الديمقراطي الدستوري قوة للوحدة الوطنية، ومرتكزا لبناء الهدف
الاستراتيجي الوطني الجامع والمشترك، وترسيخ ثقافة ومؤسسات العمل الجماعي
القادرة على تحقيقه وإنجازه* . بلغة أخرى، لا مجال بعد “ربيع كورونا”
للتساهل في مكافحة الممارسات التي لا تجعل الممارسة الديمقراطية عملية
جوهرية وذات مصداقية عالية لإثمار التراكم الخلاق للثقة المتبادلة بين
المواطن ومؤسسات الدولة المنتخبة والإدارية. إن من شأن *أي تهاون في هدر
الزمن الديمقراطي والتنموي، والتساهل مع ممارسات تبخيس عمل الدولة
ومؤسساتها وإصلاحاتها الدستورية المهيكلة ،( مواصلة إصلاح منظومة العدالة
خاصة في مجال التخليق وتعزيز الأمن القضائي، إصلاح البرلمان لتوسيع سلطاته
في مراقبة عمل الحكومة وتقييم السياسات العمومية ، الجهوية المتقدمة لتحقيق
تنمية مجالية عادلة ومنصفة ، …إلخ)، أو تبخيس العمل السياسي أو دور
الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كل ذلك لا يمكنه في المحصلة إلا أن يضر
بممانعة التماسك الوطني في الأزمات* ، ويضعف قدرة الوطن ومناعته للصمود في
الظروف الصعبة التي تنتجها هذه العولمة الخطيرة والغامضة. يدخل أيضا في
معنى هذه المصالحة إعلان خطة وطنية جماعية وجامعة لمكافحة مظاهر الريع
السياسي والاقتصادي والإداري والإثراء غير المشروع ، وتحقيق تكافؤ الفرص
بين المغاربة في الشعور بفخر الانتماء للوطن، والتنافس بلا حدود للمساهمة
في بنائه منيعا متماسكا محفوظ الأمن والسيادة، ضامنا لكرامة أبنائه
وأجياله القادمة، صفا متراصا في أحوال الرخاء كما في ظروف الشدة.
▪ *المصالحة الرابعة : عفوٌ قاصِدٌ يفتح المغرب على أفق تطويرٍ تاريخي ل”مؤشر ديمقراطيته”* ▪
يملك
المغرب، بالشرعيات المتعددة والراسخة لنظامه السياسي الملكي الدستوري
وإمارة المؤمنين ، واستقراره وتماسكه المجتمعي النموذجي في محيطه المضطرب،
وخبرته المعتبرة في التعاطي الإيجابي مع التطلعات الإصلاحية للمواطنين، (
يملك) الجاهزية الدستورية والمؤسساتية لجعل “ربيع كورونا ” فرصة لتسريع
وتيرة ابتعاده عن خانة الدول التي يصنفها “مؤشر الديمقراطية” ضمن الدول
“الهجينة ديمقراطيا”. فكما أن المغرب نجح في الابتعاد منذ عقود عن نادي
الدول التي من جنسه الثقافي والحضاري، والتي ما زالت تتخبط في رذائل
الاستبداد ومفاسده ، يستطيع المغرب أن يواصل رحلة الإبحار في اتجاه أفق
أفضل وأرحب. *يتعلق الأمر هنا بإعلان عفوٍ ذي رمزية ظرفية عالية القيمة
والدلالة ؛ عفوٌ تاريخي قاصد يُفرغ السجون من نزلائها الذين تُشهر المنظمات
الحقوقية الوطنية والدولية أسماءهم في مختلف المحافل، لتحقيق مصالحة
ثانية* ( بعد تجربة الإنصاف والمصالحة الأولى ) تمكن من لمِّ الشمل وطي
صفحة كل ما يشوش على صورة المكتسبات المتراكمة في هذا المسعى ومنذ عقود.
إن من شأن هذا العفو أن يُفقد خصوم الوطن في الخارج ورقة لا يدخرون وسعا
في استثمارها ضده، وأن يوسع دائرة المشاركة في بناء الوطن ومواصلة جهود
تعزيز فعالية ومصداقية حياته السياسية، وتعدديته الحزبية،وممارساته
الانتخابية، وتحقيق قوة ومسؤولية أداء حكوماته وجماعاته الترابية أمام
الشعب وأمام المؤسسات الدستورية للدولة، وتوسيع دائرة انتشار ثقافة
المشاركة السياسية والمدنية والتمتع بالحريات المدنية، بما يجعله في أعلى
مستويات الرفاه والسلم الاجتماعي في الظروف العادية، والتعبئة الوطنية
الشاملة للتعامل مع العولمة ومخاطرها في الظروف الطارئة والاستثنائية.
*▪( يتبع في المقالة الثالثة : بعد المصالحات..الإصلاحات الضرورية )▪*
تعليقات
0