محمد العصفور
رئيس المركز المغربي للتطوع والمواطنة
يتابع المركز المغربي للتطوع والمواطنة ما يعيشه العالم منذ ما يقارب ستة أشهر على ظهور أول حالة إصابة بفيروس كورونا بمدينة يوهان المتواجدة وسط شرق الصين، وكيف أن العالم بقواه العظمى وذات السبق الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والعسكري وقفت عاجزة على مجابهة هذا الجندي الشبح، والذي انتشر عبر كل أقطار العالم كانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي نظرا للأجواء المفتوحة بين دول المعمور.
وكل دول العالم، حسب تاريخ ظهور الوباء بها، هي الآن في حرب مفتوحة جندت لها كل إمكانياتها الطبية والمالية واللوجيستيكية، وغيرها مع تعبئة كل الموارد البشرية الطبية والعسكرية والأمنية، التي تتوفر عليها لمواجهة جائحة كورونا ومحاصرتها، وتختلف نجاحات وإخفاقات كل دولة حسب دفاعاتها في هذه الحرب، والتي كشفت ضعف كبريات الأمم المتقدمة وارتباك قادتها وعجز مختبراتها ومؤسساتها الطبية في إيجاد الإجابات والحلول للقضاء على الفيروس، وبالرغم من أن هذا الوباء لازال منتشرا بتفاوت بين دول المعمور، فهناك من الدول التي بدأت وذلك حسب اختياراتها واستراتيجياتها – في مواجهة هذا الوباء – في جرد حصيلة ولو مؤقتة لما خسرته سواء في عدد موتاها بالنسبة للدولة التي فضلت اقتصادها على شعبها أو انكماش اقتصادها بالنسبة للدول التي فضلت شعبها على اقتصادها بفعل الحجر الصحي كاختيار لوقف تفشي العدوى القاتلة.
صحيح أن ما سنعيشه ما بعد كورونا سيكون سابقة عالمية، ومما لا شك فيه أن هذه الأزمة التي نعيشها اليوم ستحدث تغييرات عميقة ستطبع كل دول العالم ومن بينها بلادنا سواء على صعيد صياغة الأولويات أو بلورة هندسة جديدة لمجتمعاتها واقتصاديتها، ستظهر لا محالة نتيجة ما أفرزته وتفرزه وما ستفرزه مستقبلا سياسة تدبير الأزمة وما تكشف عنه من صعوبات سواء من طرف الدولة أو المواطن بعلاقتهما مع الحقوق والواجبات.
إن المركز المغربي للتطوع والمواطنة من منطلق وظيفته كفاعل مدني ملقاة على عاتقه نشر ثقافة التطوع وقيم المواطنة وحقوق الإنسان، وترسيخ روح الوطنية الحقة، المبنية على قيم المواطنة، وكرامة الأفراد، والتسامح، ونبذ العنف بكل أشكاله، يمكن أن يؤكد أن بلادنا وبدون أية مبالغة قد نجحت في تقوية مصداقيتها كدولة مواطنة تحث القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي حسم بسرعة واختار حماية أرواح الشعب، مهما كلف هذا الاختيار من خسارة على مستوى الاقتصادي.
هذا الاختيار الذي سمح لكل المواطنين والمواطنات بمختلف أعمارهم وطبقاتهم أن يعيشوا وعلى مدى شهرين وعلى الميدان أن الدولة المغربية بكل أجهزتها الطبية، الأمنية، العسكرية، والقضائية نجحت في تأطير البلاد في ظرف قياسي تمكنت الدولة المغربية من التحكم في فضائها الحضري والقروي، ومجالها الجوي والبحري حيث تمكنت من فرض الحجر الصحي في فترة أولى وتمديده لفترة تانية لغاية 20 ماي، وذلك رغم كل الصعوبات التي تواجه فرض مثل هذا الإجراء حين تنفيذه وخاصة داخل مجتمع لم يتعود على هكذا إجراء منذ عقود، وخاصة شبابنا الذي تعود على البقاء أكثر في الشارع أكثر منه داخل المنزل، حيث أن بلاغ للمديرية العامة للأمن الوطني الأخير أن العدد الإجمالي للأشخاص المضبوطين في إطار العمليات الأمنية المنجزة لفرض تطبيق إجراءات حالة الطوارئ منذ تاريخ الإعلان عنها من طرف السلطات العمومية، بلغ 76 ألفا و907 أشخاص في مجموع المدن المغربية، من بينهم 40 ألف و752 شخصا تم تقديمهم أمام النيابات العامة المختصة بعد إخضاعهم لتدبير الحراسة النظرية.
ولعل أهم المعالم الكبرى للمعالجة المغربية لهدا الاختيار يعود إلى الرؤية الاستباقية والقرارات الشجاعة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله التي حصنت البلاد والعباد، وإلى وعي وتجاوب المواطنين والمواطنين في ملحمة وطنية ثالثة بين الملك والشعب ستؤسس لا محالة لتجربة مميزة في مواجهة الأزمات، من رص صفوف الجبهة الداخلية وخلق تعبئة وطنية وتضامنية وتطوعية شاملة.
وبقدر ما أبهرت هذه الملحمة الجميع، بقدر ما أبانت عن حجم الفقر المتفشي بين مواطنينا، وانتشار الأمية وسلوكيات عدم الانضباط وغياب روح المواطنة، وظروف السكن الغير اللائق، وهو ما يحتم علينا فور القضاء على هذا الفيروس بإذن الله تعبئة شعبية في مشروع وطني جديد وخاصة أن جلالة الملك محمد السادس ينتظر جوابا من لجنة النموذج التنموي حول النموذج التنموي الجديد للمملكة.
الأزمة أعادت الثقة بين المواطن في علاقته بإداراته ومؤسساته، ولا بد أن ندعم جميعا هذا التوجه في المستقبل، وخاصة أن جيلا جديدا من الإصلاحات أصبح يفرض نفسه وعلى كل الهيئات المدبرة للشأن العام ومؤسسات الدولة أن تباشر هذا الورش بتوافق وطني، لأن رهان ما بعد كورونا، يجب أن يكون الرابح الأول فيه هو الوطن وهذا يقتضي من كل النخب السياسية والاقتصادية والمدنية سلوكا جديدا ومجهودا وطنيا جماعي يمكننا جميعا تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله من بلورة تعاقد اجتماعي واقتصادي جديد يكون المواطن هو حجر الزاوية وتكون مصلحة الوطن هي هدفه النهائي والأخير.
والمركز المغربي للتطوع والمواطنة انطلاقا من الأهداف التي سطرها منذ تأسيسه، وانطلاقا من الأدوار الدستورية الجديدة للمجتمع المدني التي خولها له الفصل 12 من دستور المملكة، فإنه يدعو إلى تفكير جماعي في مشروع جماعي لما يجب أن يكون عليه مغرب الغد : دولة قوية باحترام القانون وحقوق الإنسان، دولة جادة في معالجة العجز الاجتماعي ومحاربة الفقر، من خلال تحقيق الرهانات الاجتماعية التي نص عليها الدستور المغربي في الفصل 31 كحق للمواطنات والمواطنين منها :
على مستوى التعليم : الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، لقد صار لزاما إعادة النظر في مفهوم المدرسة، لقد ظهر جليا أن مهمة تعليم الأجيال الصاعدة هي مهمة عمومية، ولعل من حسنات الحجر الصحي أنها بعثت وعيا وطنيا للنهوض بالمدرسة العمومية، وهذا يتطلب العمل على تأهيل التعليم العمومي، مع دعم التعليم الخاص في المنظومة التعليمية من برامج ومناهج تعتمد بالأساس على التعلم بالدرجة الأولى والتربية بنفس الدرجة، كما حددها الدستور في التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة، بالإضافة للتربية على المواطنة وعلى التطوع حتى نخلق جيلا جديدا متعلم ومحب لوطنه، ونعيد له التوازن بين ما هو محلي وما هو كوني للتخفيف من غلواء قيم العولمة وما ترتب عنها من انهيار للحدود بين الثقافـات المحلية والعالمية؛ وما صاحب ذلك من آثار سلبية أحيانا؛ وذلك للمحافظة علـى الهويـة الوطنيـة والخصوصية الثقافية بشكل يضمــن الانتمـاء الذاتي والحضاري للوطن دون تصادم مع الأفكار الرائجة في محيطه، كما آن الأوان للتفكير بجدية في طريقة مناسبة للاستثمار في المدرس والتعليم والبحث العلمي هو استثمار في الأجيال المقبلة واستثمار في العنصر البشري الذي لا يقدر بثمن.
على المستوى الصحي: إن نجاح منظومة حالة الطوارئ الصحية في احتواء أعداد المصابين بهذا المرض، بتزايد أعداد المتعافين بالعشرات وانخفاض عدد الوفيات يوميا ومنذ أسبوع يؤكد نجاعة الإختيارات السياسية التي رفعت الصحة إلى مصاف أولى الأولويات، هذه المنظومة الصحية التي اعتبرت قطاعا ثانويا منذ مدة تخصص له ميزانيات هزيلة، فالجائحة اليوم فرضت على الدولة أخذ العبرة، وأن تولي اهتماما كبيرا لهذا القطاع بزيادة عدد الأطباء والممرضين وتأهيل الموظفين، وإعادة هيكلة المستشفيات التي تعاني أغلبها خصاصا شديدا في بنيتها التحتية ومواردها البشرية وأسلوب حوكمتها، مع تطوير العرض الصحي وجاذبيته، والتسريع بإعادة النظر في الرميد لما أبان عنه من اختلالات وعدم نجاعة، وإخراج نظام يمكن الفئات الهشة من تلقي علاج مناسب. العلاج والعناية الصحية. في أفق تحقيق المطلب الدستوري الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة.
على مستوى السكن : لابد من العمل على أنسنة المدينة والفضاء العام والخاص معا بالتزام شروط محددة للسكن اللائق والعيش الكريم بعيدا عن منطق العلب الإسمنتية التي يختنق بداخلها المواطن وخاصة مع الانفجار الديمغرافي الأسري، مع إعادة النظر في الأنساق المختلفة المتعلقة بالسكن التي يوفر له فضاء خاصا حاضنا ودامجا، فنمط السكن المتبع حاليا في شقق بمساحات صغيرة لا توفر العيش في بيئة سليمة، حيث يجد المواطن في الفضاء العام متنفسا لحرية التنقل والتجمع وفي بعض الأحيان حتى الطبخ والغسيل.
على مستوى الشغل : لا بد من انخراط المؤسسات المالية كما برهنت عليه في التبرع بصندوق كورنا أن تعمل على تشجيع المقاولات الصغرى والجد الصغرى والقطاعات غير المهيكلة كما يقتضي إعادة النظر في المنظومة الجبائية لتصبح أكثر عدالة وتوسيع عدد الملزمين والتي ستمكن من إعادة توزيع الثروة للقضاء على الفقر وتوسيع الطبقة الوسطى، مع تشجيع الاقتصاد التضامني المبني على الإنتاج الجماعي والمنتج المحلي، وعلى أسس استعمال مستديم للموارد وإنتاج محلي للطاقات المتجددة، وعلى تنمية للكفايات المحلية والتشغيل الذاتي.
على مستوى السجل الاجتماعي : يجب إخراج السجل الاجتماعي إلى الوجود والذي سيمكن من العمل على منح الدعم لمستحقيه الحقيقيين، وما خطة الطوارئ التي أقرها المغرب في شقها الخاص بتوفير الدعم المادي سواء للمستفيدين من النظام الصحي راميد أو المنتسبين إلى القطاع الغير المهيكل إلا تسهيلا لعملية إعداد السجل الاجتماعي الذي عرف تأخرا كبيرا بحيث ستشكل هذه البيانات والمعلومات أرضية صلبة لتفعيل هذا السجل.
وتاريخ المملكة المغربية حافل بالدروس ومن بين الدروس التي كانت ذات اُثر إيجابي على بلادنا سياسة السدود التي أبدعها الملك الحسن الثاني رحمه الله والتي جعلتنا في عز أزمة كرونا نتمتع بألذ الفواكه وأطيب الخضر وبأثمنة ممكن اعتبارها أقل من المعتاد، وعلينا اليوم أن جعل من كوفيد 19، فرصة لا تعوض لنموذج تنموي جديد والانتقال إلى الدولة المواطنة.
تعليقات
0