إيمان لعوينا باحثة في العلوم السياسية خبيرة وناشطة في المجتمع المدني
ارتبط الفعل المدني بالمغرب منذ فترات بعيدة بحركية الأهالي داخل مجال المبادرة الجماعية لسد احتياجاتهم المجتمعية على أسس التكافل والمساندة ، حيث عملوا بنظام التويزة لمد يد العون لبعضهم في تدبير شؤون حياتهم ، و قننوا عمليات الرأي من خلال نظام الخطارات ، و نظموا استغلال الأراضي الزراعية بنظام أراضي الجموع.
واستطاعت هذه الروح الجماعية أ فيما بعد تساهم في حصول المغرب على استقلاله بتظافر جهود الحركة الوطنية لمناهضة المستعمر وكل ممارساته التغريبية ،لتشهد مرحلة ما بعد الاستقلال صدور ظهير الحريات العامة سنة 1958 ، الذي يعتبر الاطار القانون المرجعي الأساسي لعمل الجمعيات بالمغرب لغاية الان ،ويعد أهم محطة في كرونولوجيا تطور العمل المدني ،الذي عرف تراجعا ابان ثلاثة عقود من الزمن بسبب الظروف السياسية الاستثنائية التي شهدها المغرب سنوات الستتنيات و السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ،ولم تظهر بوادر الانفراج الا في فترة الانفتاح الديمقراطي، وتصالح الدولة مع ماضيها وقيامها بجهود كبيرة في اتجاه المصالحة، حينها تم استدعاء المجتمع المدني بقوة لتعزيز جهود الوساطة المجتمعية ،لاسيما مع تعقد الوضع الاجتماعي والاقتصادي بسبب تداعيات برنامج التقويم الهيكلي الذي فرض من خلاله صندوق النقد الدولي على المغرب إملاءات تقشفية مجحفة، أدت إلى تراجع الاستثمار العمومي لاسيما في القطاعات الاجتماعية ، ووصول المغرب لمرحلة السكتة القلبية مع تداعيات سنوات الجفاف المتتالية.
ولحلحلة هذا الوضع المعقد عمل المغرب بعد عقدين من الزمن على اطلاق ورش اجتماعي كبير هو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، من خلال برامج لمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي بشراكة مع جمعيات القرب الصغرى و المحلية لاسيما في العالم القروي وداخل الأحياء الهامشية ضواحي المدن، التي انتشرت بها أحزمة الفقر، وعرفت كثافة سكانية كبيرة وغدت بؤرا اجتماعية تنتشر فيها مختلف أنواع الجنوح والانحراف والتطرف .
وبعد وصول هذا الورش إلى مرحلة تنزيل الجيل الثالث 2019 / 2023 ، ومع كل ما حققته المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من إنجازات لصالح ترسيخ عدالة مجالية واجتماعية، الا أنه للأسف المغرب بقي ترتيبه محتشما حسب تقرير الصندوق الإنمائي للأمم المتحدةPNEUD ، قياسا مع مؤشر التنمية البشرية حيث صنف سنة 2019 في المرتبة 121 دوليا على ،189 دولة وربح نقطتين عن سنة 2018 حيث كان في المرتبة 123 على 189 ، ويعتمد هذا المؤشر في قياسه على أمد الحياة ارتباطا بالخدمات الصحية ،وعلى سنوات الدراسة التي يجب أن تتجاوز 17 سنة ، وعلى الدخل الفردي للمواطن، وهو ما وضعه في قائمة البلدان ذات تنمية بشرية متوسطة .
وعليه يمكن أن نستشف أنه رغم تطور العددي للجمعيات بعد انطلاقة ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الذي وصل إلى 50000 جمعية قبل سنة 2011 ،فلقد عرفت برامجها تحدي النجاعة على المستويات التالية :
- لجوئها في تنزيل برامجها إلى مجتمع مدني غير مؤهل يعتمد على انجاز مشاريع محدودة الأجل ،لاسيما المشاريع المدرة للدخل، بحيث أن ديمومتها الاقتصادية غير مضمونة.
- استهدافها للفئات الأكثر فقرا وهشاشة دون تمكينهم من التأهيل المعرفي عن طريق التعليم ، أوالمهارتي عن طريق التدريب على اكتساب حرف معينة .
- حكامة عمليات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومشكلات تجانسها من خلال المشاريع الرئيسية ودعاماتها المواكبة التي تشجع على احداث تنمية شاملة داخل المناطق المستهدفة.
- عدم تطوير البنيات الإدارية التي تشرف على ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من أقسام العمل الاجتماعي بالعمالات إلى وكالة وطنية مستقلة .
لكن التطور الحقيقي الذي سيعرفه عمل المنظمات المدنية بالمغرب سيكون بعد دسترة الأدوار الدستورية الجديدة سنة 2011 ، وإقرار آليات الديمقراطية التشاركية، التي ستساهم من خلالها الجمعيات في تدبير الشأن العام وصناعة القرار العمومي، وتتبع وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية ،وستشهد مرحلة التنزيل الدستوري اعمال الاطار القانوني والمؤسساتي للمشاركة المواطنة، حيث تم احداث الهيئات الاستشارية لدى مجالس الجماعات الترابية، تم تفعيل آلية العرائض من طرف الجمعيات والمواطنين بلغت 212 عريضة قدمت لمجالس الجماعات الترابية إلى غاية سنة 2019 ، قبل منها حوالي 49 % ،وتم تقديم 6 عرائض للسلطات العمومية 5 لرئيس الحكومة وواحدة لرئيس مجلس النواب، رفضت لأسباب شكلية ، كما شهدت هذه الفترة تطورا في عدد الجمعيات التي بلغت 216000 جمعية لحد الان ويمكن أن نعطي تقييما موجزا لعملها كالتالي :
– أغلب الجمعيات تعمل على تأطير الساكنة وتوعيتهم في مجالات مختلفة وتهتم بالمجالات الثقافية والرياضية ، و بالمشاريع ذات الطابع الاجتماعي، كما أنها عملت على تطوير مجال تدخلها لفائدة البيئة والاقتصاد التضامني خلال السنوات الأخيرة.
لكنها تبقى في غالبيتها غير مؤهلة لولوج مجال الشراكة بقوة ،والوفاء بالالتزامات التعاقدية مع الجهات الشريكة ، سواء قطاعات حكومية أو مؤسسات عمومية أو جماعات ترابية أو هيئات دولية حيث يبلغ عدد الجمعيات التي استطاعت الولوج للشراكة حسب التقرير الصادر عن وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان لسنة 2017 / 2018 حوالي 20000 جمعية فقط ، وهو رقم لا يرقى حقيقة بالأدوار الكبيرة التي يجب أن تقوم بها الجمعيات على مستوى جميع المجالات التدخلية ، والتي ستتضاعف الأكيد مستقبلا مع تداعيات جائحة كوفيد 19 ، لاسيما ما يتعلق بالصحة والتطوير الوقائي، والتعليم وعلاقته بالرقمنة ، و التشغيل وصلته بالعمل عن بعد ، والتدخلات ذات البعد الاجتماعي العرضاني ، لاسيما أن كل المعطيات تشير أن ملامح العالم و أنماط العيش والحياة العامة ستتغير ما بعد الجائحة، ليصبح واقع التعايش مع الوباء حقيقة لا مفر منها، وعليه فإن المنظمات المدنية بالمغرب مابعد الجائحة تحددت معالم اشتغالها الأولوي بقوة وستكون كالتالي:
- الترافع الرقمي وتعزيز اليقظة المجتمعية لضبط الإنفاق العمومي ليساير الأولويات الحقيقية للدولة مابعد الوباء .
- إخراج الترسانة القانونية التي ستتيح للجمعيات التدخل أكثر لسد الخصاص الاجتماعي لاسيما قانون التطوع الذي سيشكل آلية حمائية مهمة للمتطوعين.
- وقانون جمع التبرعات الذي سييسر إنجاز الحملات التبرعية الإحسانية لصالح الفئات الهشة، التي ستزداد مستقبلا مع تهديد أزيد من 800.000 أجير بالبطالة وولوجهم القطاع الغير مهيكل كمتنفس للحصول على مورد رزق.
- تعزيز التشاور العمومي وتنظيمه من خلال قانون يقننه بإطلاق المنصات العمومية التشاورية، لإدماج المواطن بيسر في صلب مواكبة الشأن العام وقضاياه الوطنية والمحلية .
- إرساء منظومة جديدة للشراكة مابين الدولة والجمعيات مبنية على التعاقد للتصدي لتداعيات الوباء الاجتماعية والاقتصادية.
وأخيرا يجب التركيز على تعزيز مناخ الثقة الذي ساد مابين الدولة و المجتمع بصفة عامة ابان فترة تدبير الجائحة، وعدم محاولة كسره بالتضييق على مجال الحريات العامة والحقوق الأساسية ،لأن المواطنة المنضبطة والمسؤولة لن تتأتى إلا باحترام دولة القانون والمؤسسات التي تكرست بقوة خلال السنوات الأخيرة ،وأي تراجعات عن المكتسبات التي أقرتها سيعيد الأمور إلى الوراء وسيرفع حدة الاحتقان الاجتماعي لاسيما مع ما ستخلفه هذه الأزمة من أزمات لاقدر الله .
تعليقات
0