بقلم: عمر دغوغي الإدريسي /
إن استشراء الفساد هو اخطر التحديات التي تواجه بلدان وتجارب التحول الديمقراطي.
والنجاح والفشل في المعركة ضده، لها إبعادها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، المتعددة. وهو ما سيقرر مصير التحول الديمقراطي والإصلاح المنشود.
لقد أفضى الفساد إلى تعاظم النفوذ السياسي والاقتصادي، للقوى التي تديره وتستفيد منه، والى تمتعها بسلطة موازية لسلطة الدولة والى شللها تقريبا. فاستمرار الفساد والإهدار في المال العام، وتعطيل فاعلية الدولة، لا يبقي للديمقراطية من معنى.
كما أن منطق المهادنة أو التعايش، مع الفساد، ينزع من الممارسة الديمقراطية مضمونها الاجتماعي والسياسي، ويجعلها، ممارسة شكلية، تعجز عن توفير الاستقرار السياسي والاجتماعي المطلوب في أي تنمية اقتصادية اجتماعية فعالة. ويعيق مشروع خلق بنية اجتماعية وسياسية ساندة ومؤثرة في مشروع التحول الديمقراطي.
باستثناء بعض الدول، التي حققت، وان بمديات متباينة، نجاحا مهما، في مواجهة الفساد، ، مثل تايوان وماليزيا ودول أخرى، لازالت اغلب دول العالم الثالث، المتخلفة منها والناهضة، تعاني من استشرائه، بدرجات مختلفة من الحدة. وهذا ينطبق على اغلب الدول العربية، والدول الإقليمية كإيران وتركيا.
إلا أن دولا مثل العراق، باتت فيها ظاهرة الفساد حالة خاصة وحادة وشائعة، تغلغلت فيها شبكة الفساد في كل مفاصل الدولة والاقتصاد والمجتمع، وبمديات كبيرة.
فالحديث عن الفساد وعن رموزه وميادين تفشيه، بات فيها علنيا وصريحا. ومفارقته أن يقترن بشكوى واعتراف النخبة الحاكمة ذاتها ( مؤسسة الحكومة ومؤسسة التشريع (البرلمان)، وفي ظل تقاعس واضح من مؤسسة القضاء والادعاء العام، والاعترافات العلنية للفاسدين ، باتت على الهواء، وتأكيدات أجهزة الرقابة وهيئات النزاهة الرسمية، بالأدلة التي بحوزتها ، لا يصاحبها أي تحرك للمدعي العام، ودون إن يستتبعا أي إجراء أو عقاب. الإجراء الحكومي والتشريعي الوحيد، هو مزيد من لجان فاسدة لمتابعة الفساد، ولجان نزاهة أو رقابة فاقدة لأية صلاحية أو قدرة على فعل شيء، حتى باتت مؤسسات النزاهة والرقابة ولجان مكافحة الفساد، بحاجة إلى مؤسسات نزاهة ورقابة عليها ولجان مكافحة فساد أخرى.
إن تعقيد وتشعب شبكة شيوع الفساد، من أدنى حلقات المجتمع إلى أعلى مرافق الدولة أو اغلبها، خلق فئات وطبقات، هي اليوم قاعدة النظام السياسي وحاميته. ومصالحها باتت شديدة الارتباط باستمرار الفساد ، وبقيام ديمقراطية تخدم الدولة الفاسدة وقاعدتها الاجتماعية.
إن هذا الوضع يجعل موضوعيا ، مؤسسة النظام السياسي بمجمله، شريكا في الفساد ان لم تكن بؤرة الفساد الأولى.
إن الاستمرار بذات المنهج والسياسة، لا يبدو فقط تعبيرا عن عجز سياسي وفشل حكومي مهين، عن تنفيذ متطلبات الإصلاح المعلن أو المنشود، وعن عدم اكتراث بمعاناة الجمهور ومشاكل البلد ، وعن تحايل والتفاف مقصود من الحكومات، على مطالب الناس وضرورات الاقتصاد، وإنما يبدو أيضا ممارسة خالية من الحد الأدنى من المسؤولية، والالتزام السياسي والأخلاقي الذي تقتضيه طبيعة المسؤولية الحكومية. وأسوأ أشكاله أن يكون اختيار حكومي واع يتشارك الأهداف والمصالح مع هذه القوى، أو استسلام وخضوع تام لها (كما فعلت وتفعل بعض الحكومات اليوم). وهذا تفريط واضح بمصالح البلد وحقوق الشعب، وبمتطلبات التغيير والإصلاح.
إن من اغرب مظاهر هذه الديمقراطيات، هو أن تكرر الحكومات، وعلى مدى سنوات، وفي كل مناسبة أو دورة انتخابية، ومع كل رئيس جديد للحكومة، خطاب الجمهور ذاته، المنتقد للأوضاع والسياسات الحكومية.
وما هي النتيجة؟ لا مؤشرات واقعية على أي تغيير للوجود لسياسات أو إجراءات جدية ، إزاء قضايا، الفساد والإهدار في المال العام، وموضوع احتواء الدولة أو إضعافها وتهميش دورها الأمني أو الخدمي والاقتصادي.
والتساؤل الذي يبدو منطقيا، ويطرحه كل مواطن.
هو انه إذا كان المسئول التنفيذي، والمؤسسة التشريعية، وقادة البلد السياسيون، ينتقدون مثل أغلبية الشعب المتضررة من نهج الفساد، ويتفقون معها في وصف المأساة، ويتبنون خطابها وحلولها، ويشتكون من ذات العجز الذي تعاني منه هذه الأغلبية، فمن سيحقق التغيير والإصلاح إذن؟
ولماذا تقدم هذا المسئول لموقع المسؤولية إذا لم يكن قادرا على تحقيق التغيير الذي يقول انه ينشده و يريده الناس؟
أن يشكو المسئول التنفيذي الأول للناس، هموم مصاعبه بعد تسلمه المسؤولية، هو موقف غير مقبول، ويعد متأخرا بعد تقدمه للمسؤولية ، ويشكك في مصداقية حديثه عن التغيير أو الإصلاح.
بل ويبدو تهربا من المسؤولية ومن تنفيذ الوعود. ويبدو من الغريب أيضا رهانه على جمهور مجرد من كل أدوات النفوذ والسلطة الاقتصادية والسياسية، وهو تحت مطرقة قوى مدججة بالسلاح، تعجز الدولة وقواها الأمنية ذاتها، أو تتردد في مواجهتها و ضبط حركتها أو ردود أفعالها.
ففكرة إن هذا المسئول جاء تعبيرا عن إرادة وتوازن هذه القوى، ولا يمكنه القيام بأي إصلاح أو تغيير خارج إرادتها، أكثر واقعية من فكرة الرهان على قدرة هذا المسئول في إخضاع هذه القوى لإرادته؟ وان هذا المسئول وهذه القوى يسعون لتمرير الوقت، وإدارة الانهيار السياسي والاقتصادي وليس وقفه.
وهذا ما يجتمعون عليه؟ ولن يستطيع أو يسعى احد منهم لإسقاط حكومة تسير على هذا النهج؟
وان هذا الوضع هو أمر يرضي الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية؟ وستبقى للتسويات الإقليمية والدولية الدور الحاسم في النهاية.
أن الفجوة بين، السياسات المعلنة، والسياسات العملية ، بين الإغراق في الوعود وتكرار قول ما لا يتحقق منها في ارض الواقع،على مدى سنوات ودورات، وباختلاف الحكومات، تنهي آخر مظهر أو أسس للمصداقية في أية (ديمقراطية).
تعليقات
0