– بقلم : عزيز لعويــسي
يحتفي العالم باليوم العالمي للإعــلام الإنمائي الذي يصادف الرابع والعشرين من شهر أكتوبر الجاري من كل سنـة، وهي فرصة سنويــة لتوجيه البوصلة نحو الصلات القائمة بين التنميـة والإعــلام وخاصة الإنمائي منه، ورصد الأدوار المنوطة بهذا النـــوع من الإعلام المتخصــص في النبش في حفريات قضايــا التنميــة عبر العالم، وما يعتريهــا من مشكلات متعددة المستويات وما يواجهها من رهانات وتحديات، خاصة في عدد من البلدان المحسوبـة على مجموعة بلــدان الجنوب، بشكل يجعل هذا النمـط من الإعلام يساهم بشكل ناجــع وفعال في صناعة القـرارات التنمويــة، وهو مطلب لايمكن إدراكـه، إلا في ظل تواجد بنيات إعلاميــة إنمائيــة قائمة الذات، تجعل من “التنمية” الخيط الناظم لخطها التحريري، وحضور إعلاميين متخصصين على بينة وإدراك بالتنمية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية والسياسية وغيرها، لهم من المعارف والخبرات ما يتيح لهم إمكانيات تشخيص واقع الممارسات التنموية وتتبع ما ينزل من سياسات عمومية لصيقة بالفعل التنموي.
يوم عالمي يأتي في سياق جائحة كورونا التي لا زالت مصرة على إرباك الدول والحكومات، وبقـدر إصرارها وعنادها على الانتشار والفتك، بقـدر تعمق تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية خاصة في البلدان ذات الاقتصاديات المتوسطة والضعيفة، التي ازدادت مستويات تنميتها تأزما وتعقيدا في ظل الضغط على المنظومات الصحية والتباطؤ الاقتصادي وانكماش حركية الرواج التجاري، ولم يخل المغرب كغيره من البلدان من الآثار الجانبية للجائحة على عدد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن أمامه من خيار أو بديل، ســوى استعجال تنزيل حزمة من التدابير والإجراءات التي من شأنها إنعاش الاقتصاد الوطني وإعادة ترتيب المشهد الاجتماعي،بالحرص على هيكلة القطاع غير المهيكل وإرساء منظومة فاعلة وناجعة للحماية الاجتماعية بكل مستوياتها، عبر ما اتخذته المؤسسة الملكية من مبادرات رائدة واستباقية، يسكنها هاجــس إنعاش الاقتصاد والمجتمع، وإعطاء نفــس جديد للفعل التنموي الذي من شأنه الرفع من قدرات الأفراد وتحسين مستوى معيشتهم.
وفي ظل هذه الدينامية التنموية المتعددة الزوايا، سواء المرتبطة بما أعلن عنه الملك محمد السادس من مبادرات إصلاحية في إطار معالجة آثار الجائحة، أو تلك اللصيقة بالنموذج التنمـــوي المرتقب أن تقدم خلاصاته وتفاصيله أمام أنظار الملك مطلع السنة القادمة، واعتبارا للآمال المعقودة على هذا النموذج التنموي لتجاوز الأعطاب التنموية القائمة منذ سنوات، وتجويد مستوى عيش المغاربة وجعلهم على قدم المساواة أمام ثمار التنميـة، نكــون أمام رهانات تنموية آنية ومستقبليـة، تستدعي تعبئة فردية وجماعية، بما يضمن نجاح مختلف الأوراش التنموية المفتوحة، ويتيح فرص الاندماج السلس في “نموذج تنموي جديد” تتحقق معه آمال وأحلام “المغرب الممكن”، ونرى أن هذه التعبئة لايمكن أن تتحقق على أرض الواقع، إلا بحضور إعلام مهني متقيد بأخلاقيات المهنة، له من المعارف والخبرات والكفاءات، ما يجعله قادرا على تتبع ومواكبة مختلف الأوراش التنموية المفتوحة والنبش في أعطاب التنمية، والاقتراب من هموم ومشكلات وانتظارات السكان، ورصد ما تشهده الكثير من المجالات الحضرية والريفية من مشاهد البــؤس والاختلال، ومساءلة السياسات العمومية في مجال التنميـة بجرأة وواقعية وموضوعية وتجرد، بشكل يجعل منه إعلاما فاعلا في التنمية.
لكن على مستوى واقع الممارسة، نــرى أنه يصعب إيجاد التوليفة الحقيقية بين “الإعلام” و”التنمية” في ظل تعدد المهام والتدخلات الإعلامية، والإقبال على المواد الخبرية التي تلامس مستجدات الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، بشكل يجعل البعد التنموي إما محتشما أو سطحيا أو متجاوزا ضمن شبكة البرامج الإعلامية، كما أن الإعلامي وفي غياب التخصص، يصعب عليه المجازفة بالنبش في حفريات مجال معرفي (التنمية) على درجة من التعقيد، يفرض الكفايات المعرفية الضرورية وتملك آليات العمل الصحفي الرصين من بحث وتحري وتقصي وتحقيق وتتبع مستدام للفعل التنموي الوطني والجهوي، لذلك، نرى أن لا خيار لإعلان القران بين “التنمية” و”الإعلام”، ســوى إرساء “إعلام إنمائي” متخصص في قضايا التنمية، والاستثمار في تكوين إعلاميين متخصصين في الشأن التنموي وقضاياه المتشعبة، وهذا من شأنه التأسيس لإعلام حقيقي لصيق بالمجتمع ومرتبط بقضاياه، ولا يمكننا إلا أن نراهن على التخصص الإعلامي كمدخل لكسب رهان الجودة وما يرتبط بها من رصانة وتميز، قياسا لما نعاينه كمهتمين ومتتبعين للمشهد الإعلامي من بعض مشاهد العبث والانحطاط والرداءة والسخافة والتفاهة، لكن العجلة لايمكن حصرها عند “التخصص”، في غياب فاعلين إعلاميين مهنيين، يتملكهم هاجس الإسهام في بناء إعلام مهني حقيقي ملتزم بأخلاقيات المهنة، قادر على الاضطلاع بأدواره الخبرية والتأطيرية والتثقيفية والتوعية من أجل الارتقاء بمستوى الأذواق وتوسيع دوائر الوعي الفردي والجماعي، تكريسا لإعـلام “مواطن” مرتبط بالتنمية بمستوياتها المتعددة وخادما لها ومساهما في صناعتها.
ونحن نثير قضية “التنمية” و”الإعلام” تفاعلا مع “اليوم العالمي للإعلام الإنمائي”، نرى أن هذا النمط الإعلامي على جانب كبير من الأهمية، من منطلق أن “التنمية” هي بمثابة “مدارة طرقية” تتقاطع فيها شوارع السياسة وسبل الاقتصاد ومعابر الثقافة وطرقات الصحة والتعليم وغيرها، وتلامـس حياة “الفرد” باعتباره محور أي فعل تنموي وغايته، وانطلاقا من هذا التصور، فالرهان على إعلام متخصص في قضايا التنمية، لن يكــون إلا رهانا على إعلام مهني قوي وناجع ورصين، تتيـح له “التنمية” تملك “مفاتيـح المجتمع برمته” وتمنحه فرصة فهـم التفاعلات المجتمعية بكل أبعادها وامتداداتها، لأن “التنمية” ابتداء وانتهاء، ماهي إلا “مرآة” عاكسة للدولة والمجتمع والأفـراد، معبرة عن واقع حال “السياسة” و”الاقتصاد” و”الثقافة” و”الصحة” و”التعليم” و”السكن” و”الشغل”و”الحريات” و”حقوق الإنسان” والمستوى المعيشي للسكان بشكل عام، وعليه، واعتبارا لما سبق، وقياسا لما يعرفه المغرب من دينامية تنموية في أفق الكشف عن هوية “النموذج التنموي الجديد”، نرى أن الفاعلين في مجال الإعلام والنشر لابد أن ينخرطوا في هذا النفــس التنموي، بإرساء لبنات “إعلام إنمائي” يضع “التنمية” في صلب اهتماماته، وهذا التوجه تتحقق معه مقاصد “الجودة” و”المهنية”، ويضعنا أمام نمط من الإعــلام أكثر ارتباطا بالمجتمع وأكثر ملامسة لمشكلاته وقضاياه، وكما نصر على وجود “إعلام إنمائي”، نصر أيضا على “التخصص” في مجالات وحقول معرفية أخرى تفرض كفايات خاصة، من قبيل “الإرهاب” و”الجرائم الإلكترونية” و”التربية والتكوين” و”الأمن” و”القانون” و”الاقتصاد” و”التراث” وغيرها من المجالات المعرفية والمهنية، وبالتخصص، يمكن كساب رهان الصحافة “المهنية” و”الأخلاقية”، التي بدونها سنبقى نتعايش على مضض، مع “إعلام التفاهة والسخافة والرداءة والانحطاط” …
تعليقات
0