- بقلم : عزيز لعويــسي
منذ مطلع السنة الجارية لاصوت في العالم يعلو على صوت “كورونا” ولاسلطة تعلو فوق سلطة الإمبراطور “كوفيد التاسع عشر” الذي شكل خيطا ناظما لكتاب زميلنا الأستاذ والإعلامـي “عبدالعزيز كوكاس” في كتابه الجديد “في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر”، الإمبراطور المرعب الذي لازال يمسك بزمام سلطة الارباك والفتك، في ظل ما بات يحدثه عبر العالم من إصابات مؤكدة مثيرة للقلق ومن وفيات محركة لأحاسيس الخوف والقلق والتوجـس والانتظار، إمبراطور عنيد لم يترك دولة في العالم إلا وأربكها ولم يدع حكومة إلا وبعثر أوراقها ولخبط سياساتها وتوجهاتها، ولا مجتمعا، إلا وأدخله في خانة الشك واليقين والخـوف والقلق والتوجــس، ولا مواطنا، إلا وغير عنوة إيقاعات عيشه وأنماط تفكيــره..
في أوربا المجاورة، ارتفعت الأرقام بشكل قياسي، في ظل منظومات صحية أنهكها الوباء، وكخطوات استباقية لجأت بعض الدول مجددا إلى خيار الإغلاق الشامل في محاولة للتصدي لحضرة “الإمبراطور المعظم”، فيما بات الخيـار وشيكا بالنسبة لدول أخــرى، أمام نشرات وبائية يومية تـدق جرس الإنـذار، ولم يخرج المغرب عن القاعدة، بعدما أضحت الإصابات اليومية المؤكدة تعد بالآلاف، دون إغفال الأرقام المسجلة في عدد الوفيات، وهو واقع وبائي مقلق يبدو كالحصان المتمرد الذي يصعب ضبطه أو ترويضه أو التحكم فيه، على الرغم من الرهان على الخطط الوقائية والاحترازية، التي يبدو أنها تراجعت واستسلمت أمام جبروت إمبراطور أرعب العالم بكباره وصغـاره، لم تنفع معه “كمامة” ولا “معقمات” ولا “تباعد جسدي” ولا الأصوات المرعبة لسيارات الإسعاف التي تنقل المصابين يوميا نحو المستشفيات، ولا حتى أعداد الأشخاص الذين استسلموا لسلطة الإمبراطور القاتل.
ناعورة كورونا باتت تفرز كل يــوم أرقاما قياسية، تجاوزت بكثير “البؤرة شبه العائلية” على حد تعبير رئيس الحكومة، كما تجاوزت “بؤرة للاميمونة” بمنطقة الغرب، التي أثارت حينها، زوبعة من الهلع والخوف والجدل، وهي أرقام لابد أن نستحضر تداعياتها على المنظومة الصحية الوطنية التي يصعب عليها الصمود أمام أرقام باتت مخيفـة، في ظل ضعف الإمكانيات والوسائل ومحدودية الموارد البشريــة (أطباء، ممرضون، أطر شبه طبية …)، كما لابد أن نقدر حجم آثارها على السلطات المعنية بفرض مقتضيات حالة الطوارئ الصحية وما تعرفه بعض المدن من إغلاق جزئي أو شامل، ونخض بالذكر السلطات الترابية (عمال، باشوات، قياد ..) والأمنية (شرطة، درك، قوات مساعدة، جيش، وقاية مدنية ..) التي تتحمل كل يــوم وزر التصدي لجائحة العبث والتهور وانعدام روح المسؤولية وغياب الالتـزام، لفرض احترام ما يصدر عن اللجن الإقليمية لليقظة من إجراءات وتدابيــر.
سرعة دورات ناعورة كورونا في الداخل، ولجوء عدد من بلدان الجوار الأوربي إلى خيار الإغلاق الشامل، يضعنا أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، إما الرهان على التعايـش الاضطراري مع الإمبراطور المخيف، والمضي قدما نحو خيار الحجر الصحي المنزلي بعد تمكين المصابين من البروتوكول العلاجي لتخفيف الضغط عن المنظومة الصحية المرهقة، أو اللجـوء الاضطراري لتطبيق الحجر الصحي لمدة شهر مثلا، على غرار ما نهجته بعض البلدان الأوربيـة، لكبح جماح الوباء واحتواء تفشيـه، في انتظار تيسـر “اللقاح الصيني” في غضون نهاية السنـة، وســواء تعلق الأمر بالخيار الأول أو الثاني، نرى أن أي نهج محتمل، لابد وأن تتحكم فيه دراسة تشخيصية للحالة الوبائية الراهنة من حيث أرقامها وتطور مؤشراتها على المدى المتوسط وتداعيات ذلك ليس فقط على المنظومة الصحية، بل وأيضا على الاقتصاد والمجتمع في حالة العودة إلى الإغـلاق الشامل لمدة شهر مثلا أو أقل، خصوصا على المقاولات الصغيرة والأنشطة التي تدخل في نطاق القطاع غير المهيكل، أخذا بعين الاعتبــار حجم الأزمة وعمق الضرر الذي تركه الإغلاق الشامل على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
العودة الاضطرارية إلى الحجر الصحي، قد تكـون الخيار الذي لامحيد عنه، إذا ما استمرت أرقام الإمبراطور كوفيد في التمـرد والعصيان، ويصعب في هذه الظرفية التكهن فيما إذا كان قرار الإغلاق المحتمل، قادرا على فك شفـرة هذا الإمبراطور المرعب، الذي كلما حسبناه ضعف أو تراجع أو استسلـم، كلما ازداد قوة وقسـوة وفتكـا في المغرب كغيره من بلدان العالم، لكن الســؤال الأكثر إلحاحا يرتبط بالتداعيات المحتملة لذلك، على النسيج الاقتصاد الوطني (القطاع غير المهيكل أساسا) وعلى المنظومة الاجتماعية التي كشف الإمبراطور عن سوءتها وأبان عن عمق هشاشتها ودرجة تواضعها، خاصة وأن الدولة يصعب عليها مرة أخرى الرهان على الدعم الاجتماعي.
وبعيـدا عن حرارة السؤال، فنحن نتمــوقع الآن في صلب وضعية وبائيــة جد مقلقة تتناسل أرقامها بشكل سريــع، وفي الأجواء يلــوح شبـح العودة إلى الحجر الصحي على غرار بعض جيراننا الأوربيين، وبين واقــع “التعايش مع الإمبراطور” وخيار “الإغلاق الشامل”، قد نتعايش مع الوباء إلى الأبد كشكل من أشكال “الأنفلونزا”، وقد يرحل في قادم الأشهر إذا ما حضر اللقاح الناجـع الذي من شأنه تحرير العالم من جبروت الإمبراطور المرعب وكسر شوكته، ولايمكننا كباحثين ومهتمين وكمواطنين، إلا أن نضـع حزمة من التساؤلات المشروعة على طاولة الحقيقـة : هل استفدنا (دولة، حكومة، مجتمع، أفراد) من دروس وعبـر الجائحة المرعبة ؟ إلى أي مدى تغيرت عقلية صناع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي …؟ إلى أي حد تم الانتبـاه إلى محدودية النسيج الاقتصادي الوطني وإلى هشاشة الوضع الاجتماعي وتقدير تداعيات هذه الهشاشة آنيا ومستقبلا على الأمن المجتمعـي؟ إلى أي درجة تم الاقتناع بأهميـة إعادة ترتيب الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بإعادة الاعتبـار إلى بعض القطاعات الحيوية والاستراتيجية التي ظلت في “حالة شـرود” لسنوات طوال (الصحة، التعليم، البحث العلمي، القطاع غير المهيكل، الحماية الاجتماعية …)؟ إلى أي مستـوى تم الاقتناع بضرورة استعجال القطع مع كل ما يشهده المشهد السياسي من مظاهر العبث والتهور والأنانية والوصولية والانتهازيـة واللغط والعناد والخــلاف والفساد وأخواتـه، ومن إهـدار “غير مسؤول” و”غير مواطن” للمال العام، في لحظـة تموقعنا فيها أمام جائحة عالمية، لم يكن أمامنا من سبيل للتصدي لها، ســوى الرهان على التضامن والتعاضد عبر “صندوق كورونا” ؟ وماذا غير الوباء الفتاك في حياتنا كأفراد من حيث السلوكات وأنماط العيــش وأساليب التفكير، ومن حيث رؤيتنا وتصورنا للكثيـر من المفاهيم والقيم، من قبيل الموت والحياة والحرية و”الأنـا” و”الآخـر” والتضامن والحقيقة والشك واليقيـن والالتزام والوقايـة والاحتراز والدولة والمواطنة والقانون والسلطة …؟ وأية خدمات قدمها الإمبراطور العنيد للجنة الخاصة بالنمــوذج التنموي التي يعول عليها لبلورة “نموذج تنموي جديد” يحرر المغاربة من جائحة الهشاشة والبــؤس والانحطاط ويضعهم أمام خيرات التنمية على قدم وســاق ؟ وإلى أي حد تغيـر الخطاب السياسي السائـد منذ سنوات في ظل جائحة كشفت عن سـوءة الجميـع؟
أسئلـة وغيرها كثير، قد يبـدو من السابق لأوانه الخوض في مقاربتها والإجابة عنها، لكن لحظة تأمل في واقع الممارسة السياسية وفي جانب من الخطاب السياسي السائـد، تقـوي في نفسنا الإحسـاس بالقلق والخيبة والإحباط وفقـدان الثقة، والخوف في أن نهدر الزمن ونضيــع فرصة التحرك والنهوض والارتقــاء، بأن نطوي كتاب الدروس دون ضبط وندوس بعجلة العبث على العبـر دون تأمل، ونعيـد صياغـة نفـس الواقع بأساليب وأدوات جديدة وبعقليات “متجاوزة” … والقلق أن يرحل “الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر” على حد تعبير زميلنا “عبدالعزيز كوكاس”، وتــعود “حليمتنا إلى عادتها القديمـة”، في زمن قـادم، لامكان فيــه للعابثين والمتهورين والأنانييـن والانتهازييـن والفاسدين والكسالى والمتردديــن … فإما أن نكون مشاركين في اللعب أو نعيــش حالة شـرود دائم، عسى أن نكون في الموعد، وأن تكون الجائحة المرعبة، فرصتنا للوقــوف والنهوض والتحرك والارتقــاء …
بقيت الإشارة، إلى أننا وقعنا في شباك “كورونا” قبل أسابيــع، فكانت فرصتنا للوقوف أمام حضرة “الإمبراطور كوفيد التاسع عشر”، ومن يسأل عنه وعن سلوكه، فهو “مرعب” و”فتاك” و”قاهر” و”مربك” و”مستفـز”، يشل الحركات ويربك عجلة الحياة، ويفرض قبضته على الجهاز التنفسي ويفقـد الشهيـة ويدخل الجسـد عنوة في حالة من العياء والإرهــاق والهزال، ويفقـد الصـوت وفي حالات كثيـرة يسلب نعمة الذوق والشــم، ويرسل الكثيـر إلى المستشفيات في حالة غيبوبــة، ويحكم على البعض بالخضوع إلى “التنفــس الاصطناعي” ومواجهة ثنائيــة الموت والحيـاة، من لازال يحمل هم السـؤال، فهو إمبراطور قاهر، أربك الدول والحكومات، أصاب الملاييـن عبر العالم وأنهى حيــاة الكثيريـن، ولازال يتربص بالكثيريــن في الداخل كما في الخارج، وللمشككين، نقول، هو إمبراطور شــرس، لا يؤمن بالعبث ولا بالتهور ولا بالقـوة ولا بالعناد ولا بالصغر ولا بالكبر ولا بالعظمة ولا بالغطرسـة، يضـرب متى أراد ومتى شـاء، وفي حصيلته رؤساء دول وحكومات ومفكرون ومثقفـون وسياسيون ونجوم بارزون في الرياضة والموسيقى والفــن، ومواطنون عاديــون بات عددهم يقـدر بالملايين عبر العالم، بعضهم تعافى وكتب له عمر جديــد، ليحكي لغيـره شراسة الإمبراطور، وبعضهم توقفت عجلة حياتـه إلى الأبــد، ونحمد الله عز وجل، لتماثلنا للشفـاء بعد يوميات صعبـة وحرجة، اقتربنا فيهـا من دائــرة الموت … إنه “الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر” الذي لن أنسـاه .. الذي لن تنســاه الإنسانيــة أبــدا …
تعليقات
0