- بقلم : عزيز لعويسي
أزمة معبر الكركرات وما تلاها من متغيرات دبلوماسية وميدانية، شكلت نقطة تحول مفصلية في استراتيجية الدبلوماسية المغربية التي باتت أكثر قوة وأكثر واقعية وأكثر نجاعة، في التعامل مع بعض بلدان الجوار الأوربي التي اعتادت أن تتعامل مع قضية الوحدة الترابية للمملكة، بأساليب المساومة والابتزاز الخفي والمعلن بما يحقق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، والبعض منها لم يعد ينظر بعيون الرضى إلى ما حققه المغرب من مكاسب دبلوماسية واقتصادية واستراتيجية، أهلته وتؤهله ليكون قوة إفريقية إقليمية ناعمة باتت معادلة صعبة في إفريقيا.
ففي الوقت الذي اقتنعت فيه مجموعة من الدول بمقترح الحكم الذاتي كحل واقعي ذي مصداقية من شأنه الحل النهائي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وانخرطت بمواقف واضحة وصريحة في دبلوماسية القنصليات، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية التي اختارت موقف الوضوح والواقعية بالرهان على الشراكة الاستراتيجية والمصالح المتبادلة، باعترافها التاريخي بمغربية الصحراء في إطار منطق “رابح .. رابح”، فإن دولا أخرى انكشفت سوءة حقيقتها واختارت بسذاجة الرهان المعلن على سلطة المساومة والابتــزاز، دون أن تدرك أن المعادلة تغيرت وأن المغرب بات أقوى بخياراته الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية، ولم يعد يقبل بأي تحرك أو تصرف أو ممارسة ماسة بسيادة الوطن ووحدة التراب.
ما أعلنت عنه وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، من استدعاء سفيرتها في ألمانيا للتشاور، ومن استدعاء لسفير إسبانيا في الرباط، على خلفية استضافة زعيم جبهة “البوليساريو” الانفصالية بإسبانيا بجواز سفر مزور، هي رسائل واضحة ومعلنة، مفادها أن المعادلة تغيرت وزمن الابتزاز انتهى ومنطق “ازدواجية المواقف” لم يعد يجدي، اعتبارا لحجم العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية والاستراتيجية التي جناها المغرب منذ أزمة الكركرات، وقياسا لما بات يشكله المغرب من وزن اقتصادي وأمني واستراتيجي يجعل منه مفتاح إفريقيا بامتيـاز شاء من شاء وأبى من أبى، فألمانيا وإسبانيا وكل بلدان الجوار الأوربي لابد أن تعي ما تحقق في قضية الصحراء المغربية من متغيرات دبلوماسية وميدانية، وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالتعبير عن مواقف مسؤولة وواضحة بشأن قضية الوحدة الترابية بعيدا عن لغة المساومة والابتــزاز، وبالانخراط اللامشروط في “دبلوماسية القنصليات” والرهان على مفردات الصداقة وحسن الجـوار والاستقرار والأمن والشراكة والتعاون مع المغرب في إطار منطق “رابح .. رابح”، وباستحضار تام أن الرهان على أدوات التشرذم والتفرقة والشتات، لن تكون له إلا تكلفة أمنية باهظة على المنطقة وعلى أوربا ذاتها.
ما قيل عن الجارة الشمالية إسبانيا، يقال عن الجارة الجنوبية موريتانيا التي لابد أن تدرك أن مصلحتها واستقرارها وأمنها مع المغرب وفي ظل المغرب، وأن تقطع بدورها مع دبلوماسية الغموض والمناورة وازدواجية المواقف، حتى لا تتحول إلى أداة مطواعة في يد أعداء الوطن، تستثمر لمعاداة المغرب والتشويش على سيادته ووحدته الترابية بطرق يائسة وأساليب بئيسـة ومنحطة باتت مفضوحة أكثر من أي وقت مضى، وأن تعي أن الدبلوماسية المغربية التي وقفت في وجه ألمانيا وحرجت إسبانيا أمام أوربا والعالم، قادرة أن تحرج أية دولة أصرت على الرقص على إيقاع المناورة والابــتزاز الرخيص مهما كبر شأنها أو صغر، وفي جميـع الحالات، فالمغرب دولة أمة مسؤولة ذات تاريخ عريق وحضارة ضاربة في القدم، راهنت وتراهن على الدوام على قيم الأخوة والصداقة والتضامن والتعاون المشترك والأمن والسلام والاستقرار، وبهذه القيم الإنسانية، كسبت صداقات وانخرطت في علاقات استراتيجية وحققت وتحقق رهانات اقتصادية ودبلوماسية بدون نفط أو غاز تحت القيادة الرشيدة للملك محمد السادس حفظه الله.
وإذا كانت أطروحة الانفصال تتهاوى يوما بعد يوم ودائرة الاقبال على “دبلوماسية القنصليات” تزداد اتساعا يوما بعد يوم، فلأن الدول الصديقة والشقيقة المنخرطة في صلب هذه الدبلوماسية الرصينة، اعترفت بمغربية الصحراء وآمنت بمقترح الحكم الذاتي كحل واقعي ذي مصداقية، وراهنت قبل هذا وذاك على خيار المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المتبادلة، وما يرتبط بذلك من أمن واستقرار وسلام، استحضارا للمخاطر والتهديدات المرتبطة بالإرهاب والجرائم العابرة للدول والقارات.
أما أعداء الوطن من الجنرالات ومن يسبح بحمدهم من مليشيات الوهم، فقد دخلت خططهم الحقيرة ومناوراتهم الجبانة في خانة البؤس والفضيحة والانحطاط والارتباك والتيهان، دون أن يدركوا أن ما يقومون به من تصرفات طائشة خفية ومعلنة ضد المغرب ووحدته الترابية، لن يزيدهم إلا عزلة وبؤسا ومهانة، ولن يزيد المغرب إلا قوة وصمودا في الدفاع عن ترابه من طنجة إلى لكويرة، وإسهاما لارجعة فيه في فتح الأوراش التنموية الرائدة في الأقاليم الجنوبية، وفي نشر قيم المحبة والأخوة والتضامن والصداقة والتعاون المشترك والأمن والسـلام بمعية الأشقاء والأصدقاء لما فيه خير وسعادة للشعوب، أما المناورون والمتربصون والمشوشون، فلم ولن يستطيعوا زحزحة المغرب من صحرائه ولا الصحراء عن مغربها، لأن الصحراء هي قضية وطن وملك وشعب وأمة وتاريخ وحضارة وآباء وأجداد، مهما كره الكارهون وعبث العابثون وحقد الحاقدون …
يؤسفنا كل الأسف، أن أعداء الوطن لازالوا أوفياء لعقيدة الحقد والعداء للمغرب ولوحدته الترابية، ويؤسفنا ثانيا، أنهم يستنزفون الخيرات والقدرات الذاتية لمواجهة المغرب في مباراة حسمت نتائجها دبلوماسيا واقتصاديا واستراتيجيا وميدانيا، عبر الرهان على “دبلوماسية متهورة” تقدم كل شيء ومستعدة أن تتنازل عن كل شيء في سبيل تغذية ما يشفي غليل عدائها الأزلي للمغرب، بدل استنزاف هذه الخيرات والقدرات لخدمة الشعب وتلبية متطلباته واحتياجاته من المواد الغذائية الضرورية من زيت وحليب وسكر ولحوم بيضاء وغيرها، ويؤسفنا ثالثا، أن تهورهم الدبلوماسي الفاقد للبوصلة، قد يجر المنطقة برمتها إلى حالة من التوتر والاضطراب وعدم الاستقرار، لا أحد يمكنه تقدير نتائجها وآثارها، التي لن تكون إلا وخيمة ومكلفة جدا على جميع المستويات.
ونحن نثمن نجاعة وفعالية الدبلوماسية المغربية التي باتت أكثر واقعية وأكثر جرأة، نثمن ما يبذل في صمت من مجهودات متعددة الزوايا، تراهن على مواصلة أوراش التنمية الشاملة وعلى الانخراط المتبصر في إرساء قاعدة مينائية أطلسية، تجعل من المغرب ومن الصحراء المغربية واجهة اقتصادية رائدة تشكل حلقة وصل بين الأسواق الأوربية والأمريكية والخليجية والقارة الإفريقية التي تعد مستقبل العالم، ويبقى “الاقتصاد” هو الخيار الأمثل ليس فقط لخدمة القضية الوطنية الأولى، بل و لتقوية قدرات المغرب، بشكل يضمن “استقلالية القرار” و”إبداء المواقف” و”التعامل الحازم” مع كل الدول التي لازالت مصرة على نهج سياسة الغموض والإبهام والمناورة والدسائس والابتزاز.
بعد أزمة الكركرات، لم يعد المغرب يقبل بأية مساومة أو ابتزاز أو مساس بوحدته الترابية، وهو على وعي وإدراك تامين بما يقوم به الجنرالات من دسائس ومناورات خفية ومعلنة، لذلك راهن على الدخول في تحالفات استراتيجية مع الأصدقاء بعيدا عن القوى الاستعمارية التقليدية من قبيل فرنسا وإسبانيا وألمانيا، ووطد العلاقات الأخوية مع أشقائه في الخليج العربي وظل وفيا لعلاقاته الإنسانية والتضامنية والتنموية مع أصدقائه الأفارقة في إطار منطق “رابح .. رابح”، ويراهن على إحداث “ثورة اجتماعية حقيقية” بعد الشروع في تنزيل مقتضيات القانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية، كما يراهن على إعطاء دينامية جديدة للتنمية في أفق “النموذج التنموي المرتقب”، وعلى المضي قدما في اتجاه النهوض بمستوى الاقتصاد الوطني عبر إعادة الثقة في المقاولة المغربية ومنحها فرص بناء الأوراش التنموية الكبرى كما حدث في مشروع بناء ميناء “الداخلة-الأطلسي”، أما “دبلوماسية الغباء والتهور” التي يقودها من يقف وراء تخريجة فضيحة “محمد بن بطوش”، ومن هو على أتم الاستعداد للتحالف مع “الشيطان” خدمة لعقيدة العداء السرمدي للمغرب ووحدة ترابه، دون مراعاة لأواصر الدين والعروبة واللغة والتاريخ والمصير المشترك وحسن الجــوار، فلن تجني إلا الخيبات والبؤس والمهانة والحراك، على أمل أن يظهر قادة جدد، يصححون الرؤية ويغيرون المسار….
وإذا خصصنا هذا المقال لتوجيه البوصلة نحو “قضية الصحراء المغربية”، فنحن على وعي وإدراك أن المغاربة بكل أطيافهم وانتماءاتهم من طنجة إلى لكويرة يتقاسمون حب الوطن ويتقاسمون حب الصحراء المغربية، فقد يختلف المغاربة وقد يتجادلون أو يتخاصمون أو حتى يتعاركون، لكن لما يتعلق الأمر بالوطن وحب التراب، فهم يتحولون إلى قلم واحد وصوت واحد وصف واحد وخندق واحد، لأن الصحراء بالنسبة للمغاربة هي أكبر من قضية تراب .. هي قضية أمة مغربية بكل أطيافها وانتماءاتها …
تعليقات
0