نورالدين قربال
السياسة والدين في المغرب: جدلية السلطان والفرقان، هذا إصدار للدكتور حسن أوريد. والصادر عن المركز الثقافي العربي، سنة 2020. ونحن على عتبة هذا المؤلف المهم، يفاجئنا العنوان بدلالات عميقة تشكل مفتاح الفهم والتحليل والتنزيل والتقويم. نحو السياسة والدين والسلطان والفرقان. والأعمق من هذا “في المغرب”. بمعنى الخصوصية المغربية حاضرة بثقلها. وتبقى الروح الفلسفية الرابطة بين المصطلحات المهيمنة هي “الجدلية”.
وقد أصل لهذه الجدلية بنص ملكي للمرحوم الحسن الثاني “فبراير 1984”. الذي يدعو إلى التنسيق بين الفرقان والسلطان، والفرقان حسب الدلالة الملكية هم العلماء، والسلطان هم ممثلو ملك المغرب في الأقاليم والجهات.
ومن خلال المقدمة سطر المؤلف عناوين كبرى تحتاج إلى المعالجة وإعادة المقاربة والتي يمكن أن نوجزها في القضايا التالية: إرهاصات عودة الربيع الديمقراطي، تغلغل الإسلام السياسي، الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية والمساهمة في تدبير الشأن العام، جدلية السياسي والديني، تدبير الشأن العام والمطلق، الخصوصية المغربية.
وجوابا على هذه العناوين الكبرى كان من الضروري أن يتناول أصولية الدولة، وأسلمة الحداثة، العدالة والتنمية والمنزلة بين المنزلتين، وتحديث الإسلام، والسلفية والهاجس الأمني، وحرية المعتقد واختبار الدولة المدنية، والانتقال الديمقراطي المجهض.
من خلال هذه العناوين الكبرى يمكن اعتبار الاستنباط الأخير عطبا للدورة الديمقراطية المنشودة. وقبل إصدار أي حكم في هذا النطاق لا بد من السباحة في هذا المؤلف الذي أزال اللثام عن المستور، واقتحمه بالتحليل والتفكيك، والتركيب.
وقد تضمنت أصولية الدولة الحديث عن الجذور الدينية للأمة، وتوظيف الدين لمزاحمة اللادينية وشتان بين التوظيف والإيمان الراسخ بلغة عبد الله العروي، ونفخ الروح الحداثية في البنية التقليدية، ثم إضفاء المشروعية من خلال ركوب صهوة التاريخانية في بعدها الشكلي التحسيني، والحاجي والضروري. وبذلك تستمر الجدلية بين السلطة السياسية والشرعية الدينية.
خلاصة هذه الأصولية، هو تحديث البنية التقليدية، وحراسة المعبد حتى لا يتجاوز الوسطية والاعتدال، وهذا من باب الضبط الذي هو أس كل عملية التواتر حتى نضمن السلسلة الذهبية، لأن هذا ورش حساس جدا ونسبة الخطأ يجب أن تكون ضئيلة. لأن هناك حدودا مفصلية والاجتهاد فيها مرتبط بالمؤسسة الرسمية خدمة لمفهوم الوحدة، ومن باب الدمقرطة لابد من فتح مجال للاجتهاد الفردي ولكن عبارة عن آراء للاستئناس وليست للإلزام. وفي هذا المجال لابد من التمييز بين السياسي والتكنوقراط في مقاربة الجدلية المطروحة، وخاصة السياسي الذي يخلط أحيانا الأوراق بين المرجعيات الحزبية ومرجعية الأمة.
خروجا من عنق الزجاجة طرح مفهوم الأسلمة، والأدلجة، ومنطق الشيخ والمريد، وجدلية المتن والسند. لكن عندما نوظف الأسلمة هلي يعني أن المستهدف بها “كافر” خارج عن الصواب؟ هل المقصود بالأسلمة هو التأصيل فكر الآخر بمعتقدات الذات؟ ومن الحكم بين الطرفين؟ من له الحق في التقويم؟ أظن أن الأسلمة تدخلنا في الأدلجة وهذا محيط لا حدود له، حتى أن أحدهم صرح “بموت الأيديولوجية” وأجابه آخر “بأن موت الأيديولوجية هو إيديولوجية”؟ أما إذا دخلنا إلى منطق الشيخ مع المريد فهي تجربة صوفية عالية إذا جمعت بين النقل والعقل والتزكية والترقية والتحلية حتى نحدث دينامية في العبادة والعادة. بعيدة عن كل دينونة محظورة. تلك قمة الوسطية والاعتدال “.
وعلى ذكر الأدلجة كيف يمكن أدلجة التقاليد؟ هل هي عملية تطويعية لخدمة أهداف عامة؟ هل أسلمة الحداثة مرتبط بأدلجة التقاليد؟ وأي معيار يمكن اعتماده في تقويم مرجعية الشيخ؟ لماذا تظل كتبا راسخة تؤطر فكر مجموعة من الناس؟ كيف نعتمد جدلية السند والمتن في فهم الأسلمة والأدلجة؟ وقد ركز الفقهاء وحذروا من تدليس المتن والسند.
والذي أثار انتباهي في هذا المؤلف تخصيص الفصل الثالث بالعنوان التالي: «العدالة والتنمية والمنزلة بين المنزلتين”. وهذا مرتبط بجدلية التحديث والمحافظة عند الهيئة، مما فتح الباب أمام البرغماتية الإيجابية، وهو من رحم الحركة الإسلامية. حيث انضم مجموعة من أعضاء الحركة الإسلامية إلى الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية التي كان يترأسها الدكتور الخطيب رحمه الله بعد التوافق بين الطرفين. وبعد الدمج بين حركتين في تنظيم واحد “حركة التوحيد والإصلاح” التي تعتمد في هرميتها على التراتبية التالية: الإسلام والدعوة والتنظيم. مع إعطاء المغرب النموذج الأمثل في التسامح الديني. في إطار العيش المشترك داخل الوطن الذي يستوعب جميع أبنائه. الذين يقدمون لأمير المومنين الولاء والبيعة وهي ميثاق غليظ بين الحاكم والمحكومين. وقد ترأس الحزب حكومة 2012 وحكومة 2016. إلا أن المؤلف يربط مصير الحزب بالتدافع بين الزمن التاريخي والزمن السياسي.
إذا كنا قد طرحنا إشكال التعبير على مستوى «أسلمة الحداثة” فنفس الأمر بالنسبة “لتحديث الإسلام”. هل المقصود هو الإسلام في أحكامه القطعية أم الظنية أم مرحلة الفراغ التشريعي أو التفويض الإلاهي.؟ إذن السؤال العميق كيف نحدث جسورا بين الثقافة الإسلامية ذات المرجعية الإسلامية والثقافات الكونية ذات المرجعيات المختلفة والمتنوعة؟ ألم يدعو النص القرآني الناس جميعا باختلاف شعوبهم وقبائلهم إلى التعارف. وهذا الأخير له بعد أفقي وعمودي. ومحروم من هذه القيم المتكبر والمحتشم. وتصحيحا لكل ما يمكن أن يقع أعلن أمير المومنين عل إصلاح الشأن الديني برؤية تتشبث بالأصول وتنفتح على المستجدات الكونية. لأن الإسلام رحمة للعالمين. بناء على مرجعية واضحة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية المغربية. انطلاقا من المأسسة، والبعد العقدي، بأبعاده الثلاثة: العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني. والسؤال الجوهري من له الصلاحية من أجل نفخ روح التحديث في منظومة الإسلام؟ جوابا على هذا السؤال وضع المغرب مؤسسات رسمية هي المعتمدة داخل البلاد وملزمة للعباد. نحو وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجلس العلمي الأعلى، الرابطة المحمدية، هيئة الإفتاء، جامعة القرويين. من خلال هذا الوارد في المؤلف نجد التداخل بين الرسمي والمدني الشبه الرسمي، والأكاديمي. فهل أنتج هذا التناص خريطة طريق لتجديد الشأن الديني؟
إن العملية في حد ذاتها صعبة المنال لأنها تريد أن تضع خطا ناظما بين كل الأطراف. ولن يتم هذا إلا بالإجابة على كل الأسئلة المطروحة. وأخذ الواقع بعين الاعتبار لأن الواقع هو الذي يوجه الفقه وليس العكس. فلأول علاج لقضايا اجتماعية مطروحة على الأمة والآخر فقه الأوراق لأنح محرر من الأصول وجعل بينه وبين الواقع حجابا.
ومن أهم تجلياته منظومة حقوق الإنسان فكيف يمكن أن نعصرن مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية في ظل الحفاظ على العقل والدين والمال والنفس والنسل؟
كيف نوسع دائرة الفتوى حتى تتناغم العبادات والمعاملات والأخلاق؟ كيف نؤسس لجدلية بين الدينامية والمعيارية على المستوى الأخلاقي؟ كيف نوفق بين فقه التدين وفقه الدين في مجال الحداثة باعتبار أن لكل أمة حداثتها وشتان بين التحديث والتغريب؟ كيف نجعل التربية الإسلامية “الحداثية” محورا استراتيجيا في العملية التعليمية؟ كيف نتجاوز قطبي التقليدانية المنغلقة والحداثية المتطرفة؟
من المعلوم تاريخيا أن الاختيار الإصلاحي للعلماء تبنى السلفية كمرجعية فكرية، باعتبارها رجوعا إل المصادر الصافية: الكتاب والسنة. بناء على مبدأي الوسطية والاعتدال. لكن بعد هذا الجيل الذهبي من أمثال أبي شعيب الدكالي ومولاي العربي العلوي وعلال الفاسي وعبد الله كنون وغيرهم من الرواد، والذي اصطلح عليها بالسلفية المتنورة. بعد هذا الجيل برزت تيارات جديدة وبألقاب متعددة نحو السلفية الجهادية، والسلفية التقليدية والسلفية التكفيرية وغيرها من الأسماء التي غالبا ما تطلق على هذه الجماعات بغض النظر عن الإنتاج الذاتي لها. والتقدير الأصوب هو بناء التقويم على حسب الفعل. لذلك كانت المقاربة للظاهرة تتسم بالشمولية سياسيا وثقافيا، وأمنيا. وفي هذا الإطار طرحت مجموعة من التساؤلات الموضوعية: ما علاقة الدستورية بالقرآنية؟ وهل أثرت الوهابية في انتشار السلفية؟ ما طبيعة ما وقع بأفغانستان وحرب الخليج وسوريا اليوم ودول إفريقية بالتأويلات السلفية الجهادية؟ ما علاقة كل هذا بمعارك جيوسياسية تسعى إلى ضبط خريطة عالمية يتحكم فيها الأقوى بلغة “هوبس”؟
وفي هذا الإطار طرح إشكال الدولة المدنية والدولة الدينية، وكيفية تأطير حرية المعتقد في الدولة المدنية. حاول المغرب أن يعتمد مقاربة أساسها الأول إمارة المومنين أي كل المومنين بغض النظر عن الديانة، لذلك كان اليهود دوما تحت الحماية السلطانية، والأس الثاني التلازمية بين الحق والواجب بناء على مواطنة مواطنة بفتح الطاء وكسرها.
وفي هذا المناخ الديني المدني، تم التمييز بين الأحكام القطعية التي لا تشكل داخل المنظومة إلا خمسة في المئة، والأحكام الظنية التي تستوعب النسبة العالية، وقضايا طرحت للاجتهاد بناء على فراغ تشريعي وتفويض إلاهي. فهل العقل الإنساني قادر على استيعاب ما ذكر في أفق العيش المشترك بين المدني والديني؟ كيف يمكن استيعاب المرجعيات الإسلامية المرنة المعتمدة على القيم الكونية المشتركة ضدا على الإرهاب والعنف الديني وغير الديني؟
إذن فحرية المعتقد لا ترتبط فقط بالثورة التشريعية، وإنما لابد من استحضار مقتضيات إمارة المومنين الأفقية والعمودية، والمواطنة المبنية على الحق والواجب، مع إمكانية توظيف منهج حداثي متناغم مع واقعنا المعيش، نحو السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا السياسية وحفريات المعرفة والتطور اللغوي.
وختم المؤلف مشكورا بعنوان “الانتقال الديمقراطي المجهض”. وهو عنوان ورقة قدمت سنة 2018. منطلقا من حكومة التناوب التي ترأسها الراحل عبد الرحمان اليوسفي، إلى حكومة قادها الأستاذ عبد الإله بن كيران، وحكومة اليوم التي يرأسها الدكتور سعد الدين العثماني. معرجا على اصطلاح “ملكية تنفيذية”، وقد حسم الدستور الطبيعة الملكية بالمغرب: ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية. وقد عرفت ميادين أخرى تطورا مسايرا هذا الإيقاع نحو: دبلوماسية دولية مبنية على الوضوح والطموح، وتنمية الحكامة على مستوى التدبير، وتعزيز البعد الأمني، وتطوير البعد الصحفي والسعي لتطوير المشهد السياسي عامة والحزبي خاصة، والاجتهاد في ربط التنميتين الاقتصادية والاجتماعية.
وللتذكير الربيع الديمقراطي ب 11 فبراير 2011 بالمغرب رفع شعار لا للاستبداد والفساد، نعم للإصلاح، وبذلك بلغت نسبة المشاركة في التصويت على الدستور بنعم 98.5. وهذه أرقام دالة للتأمل والاعتبار.
من خلال هذه القراءة لمؤلف مهم وجريء وسيساهم لا محالة في خلخلة الدال والتشويش على المدلول. وفي تقديري أن المؤلف الناجح هو الذي يمهد للنقد طريقه الطبيعي في إطار التدافع السنني والكوني والحضاري. ونختم هذه الجولة بقراء في مخرجات هذا المؤلف للسيد حسن أوريد. والتي نوجزها فيما يلي:
يرتبط التطور التاريخي بالتنظير والممارسة معا، وتوظيف الدين في الشأن العام جاء كرد فعل على الاستعمار الذي عمر كثيرا بالمنطقة العربية والإسلامية. وتطور بعد “النكسة” التي عرفتها المنطقة سنة 1967: نكسة مادية وفكرية وحضارية. بعد “النكبة” سنة 1948. وبالتالي “تصالح” الدين بالسياسة. مما تم توظيف العقل في الاجتهاد في فقه التوافقات والموازنات والتسويات. وبالتالي يتوافق البراغماتي بالواقعي. لكن هذا الاختيار قد يصيب وقد يخطئ إذا تغلغلت الأزمة الفكرية، والعطب المنهجي في المقاربة، أنذاك ننتظر المجهول. لأنه شتان بين القراءة المقاصدية والقراءة النصية والسطحية. ومما يزيد الطين بلة هو التعاطف مع هذا الاختيار بناء على وضع مهزوز اجتماعيا. ومن تم تعلو صيحات أخرى تطالب بالحداثة السياسية: حداثة منبثقة من رحم الواقع المعيش وليس لوك تجارب الضفات الأخرى، أنذاك يقع الخلط بين السبب والنتيجة. ولذلك عندما نقول التجربة المغربية فهذا ليس عصبية وإنما هو الانطلاق من الذات والاستفادة من التجارب الكونية دون الغوص في الحرفية التي تغتال الإبداع والنبوغ بلغة عبد الله كنون. ونسقط في الميكانيكية والاجترار. إن هذا النبوغ يتطور تطورا مطردا إذا نفح الروح في التاريخ، وركب صهوة الجغرافية وظل يمتح مشروعيته من الوضوح والطموح كما أكد على ذلك جلالة الملك. أنذاك سنعمل جميعا على حل إشكالات واقعية منبثقة من الذات فهل توفق النموذج التنموي في رسم الإطار المناسب؟ هذا ما ستبديه الأيام المقبلة. والدين بنية عميقة وليس فوقية في بلد إمارة المومنين. إن للإسلام سوسيولوجيا يجب أن ينفض عنها الغبار كما فعل “ماكس فيبر” مع البروتستانتية” إن جدلية الدنيا والآخرة حاضرة في الفعل الإسلامي بناء على ثوابت الأمة الجامعة وهي الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي.
إذن كيف نجدد هذه البنية حتى لا تنحرف عن الإخلاص والصواب؟ وهذه مسؤولية الجميع وعلى رأسهم العلماء اعتمادا على العناصر التالية: الحرية، الاستطاعة، التفكير الحر، المقصدية، التحرر من الأحكام الجاهزة، تقويم المسلمين بالإسلام وليس العكس لأن الإسلام غالبا محجوب بالمسلمين كما قال “محمد عبده”، أخد العصر بعين الاعتبار.
السياسة والدين في المغرب: جدلية السلطان والفرقان

تعليقات
0