ما الذي تصنعه بنا كرة القدم ؟

لينا بريس

بقلم: سليمان العلوي

ما الذي يحدث معنا عند متابعة مباريات كرة القدم؟ سؤال يطرحه كل من يبصر المشهد ابصارا موضوعيا، فالذي يتراءى لنا هو التفاعل الكامل مع هذه الرياضة، لدرجة أنه قد تعتقد أن هذه المجتمعات الشغوفة بهذه الرياضة لا تضع في اهتماماتها وأولوياتها شيء قبل كرة القدم.  فهم يجعلون مباريات منتخباتهم أم المعارك التي يجب أن يخوضوها، فإن هم انتصروا فيها جعلوا كل الإخفاقات والمآسي خلفهم، وإن هم أخفقوا فيها جعلوا حياتهم  وأوضاعهم تلتحف السواد. إنها كما قيل أفيون الشعوب الجديد. كيف لا وردود الفعل حولها لا تستثني أحدا، إذ يسارع السياسي إلى التهنئة عند الإنتصار، لأنه يعلم أن صوته سيصل الجميع، فهو في حضرة وسيلة يصل بها إلى معظم الفئات. ويتحمس الجمهور بمختلف فئاته وطبقاته لكل ما يرتبط بحدث كروي، فلا تجد تجمعا، أو لقاءً، منصة، إلا والحديث فيها عن كل ما يرتبط بمنافسات كرة القدم. فالواضح، إذن، أننا لسنا أمام شغف رياضي فقط، بل نحن أمام جمهور يتفاعل مع هذه الرياضة لأسباب مختلفة، فمنهم الذي يضعنا في خانة التدافع السياسي بين البلدان، فيعتبر بذلك إنتصار فريق موطنه إنتصارا كاملا على البلد المنافس، أي أنه ليس تفوقا رياضيا فحسب، بل هو إنتصار سياسي ضافر، ومنهم من يعتبره تفوقا هوياتيا أو حتى عرقيا، فيكفي في ظروف المنافسات أن ينجح فريق بلدهم في التفوق على بلد آخر حتى يَسْتَشْعِرَ الجمهور أن بلدهم أكثر تقدما ونجاحا من البلد الآخر، إذ يحجب عنهم إنتصار كروي إحساسهم بالتخلف أمام البلد “المنافس كرويا” في المجالات الأخرى الأكثر أهمية. هذا الشعور يحضر، على الأقل، في فترات الحماس العاطفي الذي تخلقه لدينا مباريات كرة القدم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالفرق الوطنية. حقا إن وقع هذه الرياضة على الشعوب غريب. والتاريخ يذكرنا أن بلدان عديدة ارْتَسَمَت علاقاتها الديبلوماسية بأحداث كرة القدم، فيعلنون العداء أو الصداقة لبعضهم البعض تبعا لظروف منافستهم الكروية.
ثم نجد الأفراد وقد تغيرت واضطربت أحوالهم الشخصية والنفسية وهم يتابعون مباريات فرقهم المفضلة، فمنهم من قضى نحبه جراء ضغط نفسي لم يطقه قلبه، أو مات بفعل التدافع لحضور مباراة أو التقاط صورة مع لاعبه المفضل، أو قُتِلَ لخلاف مع صديق له حول رأي في فريق أو لاعب، أو في مواجهة ضارية بين أنصار فريقين غريمين، وهي مواجهة لم تكن لتحدث في سياقات أو ظروف أخرى. وهذا لا يحدث فقط مع من جعلوا كرة القدم رياضتهم وهوايتهم المفضلة، بل هو شعور يساور حتى من لا يدركون أبجديات هذه الرياضة، بحيث يصبح الجميع جمهورا شغوفا ومتعصبا عندما يتعلق الأمر بمنافسة خارجية لفريق البلد، وتنحبس أنفاسهم لنتائج الفريق وكأن البلد حينها في حرب تحرير وطنية.
ولأن لهذه الرياضة وقع سحري على الجمهور، فقد  أضحت سوقا يرغب الكثيرون بأن يدر عليهم دخلا، فالاقتصادي يعتبر المجال وسيطا مناسبا للتواصل مع المستهلك، لذلك تعتبر إعلانات الإشهار في مسابقات كرة القدم من بين الأغلى لأنها ستحضى بمتابعات قياسية، فهي وجهة إعلامية تشد الأنظار. كما أن ممارسي الصنف الأول بها يحظون بشهرة ومتابعة تفوق ما يحظى به غيرهم ممن يعتبر دورهم أهم، ويجعل ذلك من لاعب كرة القدم فاعلا مباشرا، أو غير مباشر، في تحديد الأنماط الثقافية للسلوك لاسيما بين الفئة العريضة من الجمهور الشاب.
كل ذلك جعل هذه الرياضة وجهة مفضلة لكل من يريد قضاء مأرب خاص، فالمتابع يثير حَمَاسَتَه بها، والسياسي يخاطب من خلالها أتباعه، ويحرك فيهم نعرات الإنتماء والتعصب، والإقتصادي يجدها وسيطا مناسبا لرفع منسوب الاستهلاك بين الجمهور… ولاشك أن لها آثار وتداعيات أخرى ممتدة، ربما، إلى ما لا نحسب أنها تمتد إليه.

بقلم: سليمان العلوي

تابعوا آخر الأخبار من لينابريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من لينابريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من لينابريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الثلاثاء 29 أبريل 2025 - 09:53

فاس : ندوة الصحراء المغربية تتوج بتكريم للدكتورة كريمي.

الإثنين 28 أبريل 2025 - 20:03

السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يستقبل رئيس المحكمة العليا بجمهورية النمسا

الإثنين 28 أبريل 2025 - 19:43

جلالة الملك يهنئ السيد عبد الإله ابن كيران بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية

الإثنين 28 أبريل 2025 - 19:32

جلالة الملك يعين عددا من السفراء الجدد