كتبها : أبوالقاسم الشـــبري: عالم آثار
تعج الصحافة ووسائط الاتصال الاجتماعي هذه الأيام بموضوع ما سمي حصارا يعانيه في ما يبدو مهرجان قصبة بني عمار زرهون بالمملكة المغربية، بسبب ما قيل عن التلكؤ في منح الجمعية المنظمة الوصل المؤقت لتجديد مكتبها الإداري الذي أودعت ملفه لدى المصالح الحكومية المختصة من حوالي سنة، أو يزيد (لم تحصل عليه إلا البارحة الأربعاء 12 يوليوز 2023). ومن ثمة، عرق هذا التأخير تنظيم الدورة في صيف السنة الماضية، كما أربك استعدادات جمعية إقلاع للتنمية المتكاملة لتنظيم الدورة المؤجلة ما بين 11 و13 غشت المقبل، لأن وصل الإيداع ضروري لتلقي الدعم العمومي لمهرجان يصل دورته 13 وهو مصنف تراثا وطنيا بمقتضى قانون رسمي. علما أن القانون المغربي يعتبر كل جمعية في وضعية قانونية بعد انصرام ستين يوما على إيداع ملف مكتبها. غير أن الواقع يشهد عكس ذلك، وهناك مئات الجمعيات في أنحاء التراب الوطني تبقى معطلة لسنة أو أكثر لأن مصالح وزارة الداخلية يبدو أنها تشتغل بدستور آخر غير دستور المملكة الشريفة. ويروج في الكواليس، أو في صلوات السر وصلوات الجهر، أن هناك بعض الجهات المؤثرة من لا يروق لها أن يكون مهرجان “فستيباز” بقصبة بني عمار عنوانا للاحتفال والاحتفاء بالحمار، ليكون صرخة من أجل الالتفات إلى كل القرى المغبونة أو المهمشة أو المنسية، ولرد الاعتبار لكائن لطيف ودود خدوم أمين صبور ووفي، خدَم الإنسان عبر التاريخ بصدق، واتخذه الأنبياء والرسل والشرفاء والمتصوفة والنبلاء خير رفيق. عن الحمار، الوسيم النبيل، الذكي العاقل، الصادق الأمين أحدثكم، سيداتي سادتي. اربطوا أحزمتكم لا أدمغتكم.
يعتبر الحمار، بشهادة العلم والعلماء، وبحكم الواقع والتجربة، من بين أذكى الحيوانات والمواشي، بين كل الأنعام. بل، حتى في علوم الإستتيقا والجمال بقواعدها الدقيقة، فإن الحمار والأتان يعتبران من بين قلائل من الدواب والحيوانات من يتمتعان بوسامة يُحسدان عليها، مثلما يتوفران على قد ممشوق بفعل تناسق الأبعاد الجسمانية بحساب الهندسة الرياضية والأنثروبولوجيا الفيزيقية التي ليست حكرا على دراسة الإنسان فقط. وإذا كانت الحمير والأبقار تتنافس في جمال عيونها، والعيون السود قتلننا ثم أحييننا، فإن الحمير أذكى من الأبقار حسب دراسات علمية أكيدة، مثلما أن الحمار أذكى من الحصان، ذاك الذي يعتبره الناس مثالا للنخوة والثراء. كما أثبتت التجارب المخبرية أن حليب الأتان يشبه تماما حليب البقرة، بينما تحفل الذاكرة الشعبية، عند بعض الشعوب، بكون حليب الأتان لا يصلح للاستهلاك أو كونه يسبب الغباء، وهذا محض افتراء يفنده العلم المخبري.
ليست الجماعة دائما على صواب. وليست البشرية دوما على صواب. وخير مثال على ذلك هو الخطأ الفظيع الذي سقطت فيه البشرية، أو جلها على الأقل، حين اتفقت على كراهية الحمار واحتقاره، بينما الحمار هو عكس ما تذهب إليه الذاكرة الشعبية والحكايا والنكت وكتابات أدبية نزلت بأصحابها من كوكب الفكر إلى أثون العامة وبراثين الجهل. الحمار ثاقب الذكاء، صاحب ذاكرة صلبة، صبور بشكل استثنائي لا تضاهيه فيه إلا الإبل ربما، وهو خير رفيق للإنسان، في السهل والجبل، ولا ينازعه في الوفاء إلا الكلب الذي قد ينقلب أحيانا على صاحبه فيفترسه، بينما الحمار الذي يظل وفيا حتى الممات. والموت وحده هو من يغلب الذاكرة القوية التي تتوفر للحمار. وبفعل تلك الذاكرة الصلبة والنبِهة، فإن الحمار، ولو في أحلك الظلام، لا ينسى أبدا طريقه، بل كل الطرق التي يسلكها به صاحبه أو يمشيها وحيدا. وفي ذلك مثلا ما تذكره الحكاية العربية القديمة الطريفة في فتح بعض الشباب لخمارة سرية بعيدا عن المدينة تغيرت معها سلوكات ومعاملات، ولكي يعرف القاضي مكانها بعد أن وقف على أصل الداء، احتجز الحمير التي كان يركبها الشبان للذهاب إلى الخمارة، فراحت الحمير تلقائيا إلى الخمارة، فأمر القاضي بإغلاقها ووضع عليها العسس.
ولأن للحمار والأتان كل هذه الخصال، من جمال ووفاء وذكاء وذاكرة، ونبل وشرف، فقد كان الحمار والأتان دوما مطية الأنبياء والأولياء والمتصوفة والزهاد والشرفاء ورجال العلم والدين، قبل حلول العربات ذات المحرك، فاختلط الحابل بالنابل، فظهرت جليا الفوارق الاجتماعية، بينما كان ركوب الحمير شكلا من أشكال محاربة الفوارق الطبقية يا كارل يا ماركس. وحتى حين كانوا أثرياءا، فإن المتصوف والولي والشريف لم يركبوا الحصان لأن ذلك يرفع عنهم لباس الزهد والوقار والاحترام، إضافة إلى أن الحصان لا يذكر طريقه ولا يتحمل المشاق ولا يمكن أن يصعد الجبل، كما أن جسده لا يجعل امتطاءه يسيرا. وقد اختاروا الحمار والأتان سيارة للمسافات الطويلة يا منيف، لأنهما يصبران على الجوع والعطش، مثل الإبل، لكنهما يختلفان عن الإبل والجياد والأبقار في قلة استهلاكهما للماء والكلإ، بله أن كسوتهما غير مكلفة. وفي الحمير يلتقي إذن ترشيد النفقات بالحكامة الجيدة وتدبير الندرة والمحافظة على الموارد والتوازن البيئي. ولا نحتاج للتذكير بأن براز الحمير يصلح لطهي الطعام وفيه فوائد طبية للاستشفاء مثل فضلات البقر والأغنام. وبراز الحمير والغنم ينزل نقيا ملفوفا، عكس براز البقر وأنعام أخرى.
ليس عبثا أن يحمل الحمار في لغة العرب إسم “أبو صابر”، وله في لسانهم حوالي عشرين مرادفا، كلها تمجيد للحمار واعتداد بخصاله. وليس عبثا أن يكون الحمار شعار الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية. ليس عبثا أن الكتب المقدسة والقرآن الكريم تذكر الحمار، بتبجيل. وهناك ثقافات كثيرة تمجد الحمار. لكن البشرية في معظمها انقلبت على عهد الوفاء فصارت، سامحها الله، تحتقر الحمار، والإنسان بطباعه ماكر مخادع، ولو أنه يولد بالطبع مسالما صادقا وخيِرا. إن الإنسان كان جهولا. ولأن الإنسان جاهل، فقد أخطأ العامة في فهم قوله تعالى “..كمثل الحمار يحمل أسفارا” فاعتقدوا مخطئين أن الله يذم الحمار، بينما هو يؤنب اليهود والمسيحيين الذين حُملوا التوراة ولم يتعظوا بما أنزل على أنبيائهم من حِكَم وتعاليم لكنهم زاغوا عنها، كما أن الآية تُعتبر شهادة إلهية في حق الحمار وفي قوة تحمله للأثقال. وإذا كان الحمار لن يفهم ما قد يحمله من كتب على ظهره، فإن الإبل أيضا لن تفهم ما في تلك الكتب من علوم ونفائس الفكر. والطائرة والقطار والشاحنة لا يفقهون ما يحملون. ولذلك فإن الله لا يذل الحمار في القرآن وقد ذكره بتبجيل في قصص مريم وزكريا ويوسف وعيسى، مثلا (الإنجيل). وفي الآية الكريمة لم يقل تعالى بئس الحمار بل قال “بِئسَ مَثَلُ القوم الذين كذبوا بآيات الله..” الجمعة، الآية 5. علما أن كل ما ورد من دواب وحيوانات وأشجار في كتب الأديان فذاك يعتبر تكريما لها ودليلا ربانيا على فوائدها.
ومِثل العامة، أخطأ بعض أشباه الدارسين والباحثين في قراءة فريديريك نيتشه عن آذان الحمار، وهو يتحدث بعمق فلسفي عن حيوانات أخرى ووحوش، في مناهضته للمسيحية ودحض مزاعمها، علما ان المسيحية كانت تمجد الحمار. والحمار هذا ورد عند كثير من الفلاسفة وعند ملوك وآلهة، منذ عهد المصريين القدامى والإغريق، وهناك كثير من القصص الميتافيزيقية القديمة التي ترفع من شأن الحمار. لكن يبدو، لاحقا، أن المفكر الفرنسي لافونتين (القرن 17م) سيحتقر الحمار، وهو في ذلك من دون شك يواجه الكنيسة إذ كانت قبعة الحمار توضع في القرون الوسطى على رأس رجال الدين الصغار على أمل زرع الحكمة فيهم تيمنا بذكاء ونباهة وحكمة الحمار. وسيتصدى جول فيري لهذه العادة ويمنعها رسميا، بل جعل التلاميذ السيئين هم من يحملون قبعة الحمار، في إطار إرساء قواعد المدرسة اللائكية. ولأننا نحن أبناء المستعمرات السابقة تلاميذ نجباء لأمنا فرنسا، فيبدو أننا تبعنا فرنسا في سياستها هذه، فقط في تحقير الحمار. وقد كانت فرنسا تحتفل بعيد الحمار، على مدى قرون، وها هي عادت اليوم لتحتفل به في عدة مناسبات وتعقد له مهرجانات، لتكفر عن ذنب سبق واقترفته، ولم يبق لها سوى التكفير عما اقترفته في كل مستعمراتها.
وفي الكتابات الأدبية والفنية، يحفل التاريخ، منذ أول رواية إغريقية، بكثير من الكتابات والأعمال الفنية التي جعلت الحمار عنوانا للذكاء والحكمة، والصبر والجَلد. ويكفي أن نذكر هنا إقدام الكونتيسة دي سيغور، الروسية الفرنسية، صوفيا فيودوروفنا روستوبتشينا (القرن 18-19م) على إعادة الاعتبار للحمار في “مذكرات حمار” وهي تمثل ثقافتين مختلفتين، ودون التذكير بأعمال توفيق الحكيم وغيره من القدامى والمحدثين، فقد سبقها بشار بن برد إلى ذلك بأف سنة وهو يستقبل أصدقاءا جاؤوا يقدمون واجب العزاء في وفاة صديقه ورفيقه الحمار، فتلا عليهم ما أنشده حماره في المنام عن قصة عشق للحمار مع أتان رمقها بباب الأصبهاني (والمُتَيم هنا هو بشار من دون شك) :
سيدي مل بعناني // نحو باب الاصبهاني
إن بالبـــاب أتـانًـا// فَضَلّت كل أتانِ
تيمَتني يوم رحـنا// بثناياها الحســانِ
تيمتني بـبَنان // وبِـدَل قد شجاني
وبحسن ودلالٍ // سلَّ جسمي وبراني
ولها خد أسيل // مثل خدّ الشيفرانِ
فبها مت ولو عِشْ // تُ إذًن طال هــواني.
وهذه القصيدة الغرامية تلخص لعمري ما كتب في كل الحضارات عن لطف الحمار ونبله وإحساسه الرهيف.
ختاما، اعلموا، سيداتي سادتي، أن الحمار لا يشرب إلا الماء النقي، فلا يقرب الماء العفن، فيصبر على عطشه، والحالة هذه. وفي ذلك تقول العرب، الحمار يحمل كربه، يعرف دربه، يمز شربه. وهو يشرب فقط بين 3 و5 لترات في اليوم، ولا يستهلك إلا أقل من سبع كيلوغرامات من العشب. والحمار، الذي ظهر منذ حوالي خمسة عشر ألف سنة وتم تدجينه لاحقا، هو من فصيلة الخيول، ومنه أيضا الحمار الزرد (المسمى خطأ الحمار الوحشي). وللحمار حوافر غير مشققة (والإسلام يحرم في ما نعلم أكل ذوات الحوافر المسطحة). والآذان الطويلة لصاحبنا الوسيم تمكنه من التقاط كل الأصوات، القريبة والبعيدة. وبذلك يمكن تفسير استشعار الحمير للكوارث الطبيعية قبل حدوثها خاصة الزلازل منها، ما لم تكن لها حاسة أخرى لم يكشف عنها العلماء بعد. ولأنه ليس للحمار حبال صوتية، فإن نهيق الحمار عالي الذبذبات وقد يصل مداه إلى 15 كلم إذ يصدر من تجويفين في مؤخرة حلقه مما يسمح بمرور الهواء، فتمتلئ رئتاه، وفي ذلك آية لقوم لعلهم يعقلون.
والنهيق يختلف من حمار إلى حمار، مثلما يختلف حسب الخطاب الذي يريد كل حمار وأتان إيصاله. وعلاوة على خصال التحمل والوفاء والذكاء، فإن الحمار يكره أن تتسخ حوافره، وإذا كان بشار بن برد قد ناب عنا في وصف جمال خد الأتان، فللحمار والأتان عينان لوزيتان، او لنقول عيون عسلية، تُسقط الزرزور من فوق السور، بتعبير المغاربة عن ذات العيون الآسرة. كان الله في عوننا.
الحمار كامل الأوصاف يا عبد الحليم شغلني. وليس صدفة أن وجدنا أمراء طلبوا حمارا إلى حظيرتهم، اليوم مثل الأمس البعيد والقريب. ولا تخلو حظائر الملوك وبعض الرؤساء من أصحاب الذوق الرفيع من حمار بين أصناف ما تحفل به حظائرهم البهية من حيوانات ودواب وطيور وزواحف، البرية منها والمائية، الأليفة والمتوحشة المدَجنة. ثم يأتي متأخرا، متخلفا عن ركب الأديان والحضارة من يحاصر مهرجان قرية بني عمار، ب”تهمة” إدراج الحمار ضمن فقرات مهرجان القرية. لذلك سنقاطع مهرجان بني عمار، يوم تسحب الجمعية عنه مسابقات الحمار الوسيم وأجمل كسوة وسباق الحمير، وقد كان ذلك من بين العناصر المعتمدة في ملف تصنيف مهرجان قصبة بني عمار تراثا وطنيا لا ماديا. فهل تسحب وزارة الثقافة المهرجان من سجل التراث الوطني ؟ وهل نستفيق يوما على احتجاج أمريكي بتهمة احتقار مسؤولين مغاربة للحمار؟
تعليقات
0